وقال بعض نحويي البصرة: جعل التنبيه في موضعين للتوكيد. وقوله ( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) يقول - تعالى ذكره -: ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله ، فإنما يبخل عن بخل نفسه ؛ لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل الله ، ولكن كانت تجود بها ( والله الغني وأنتم الفقراء) يقول - تعالى ذكره -: ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم ؛ لأنه الغني عن خلقه ، والخلق الفقراء إليه ، وأنتم من خلقه ، فأنتم الفقراء إليه ، وإنما حضكم على النفقة في سبيله ، ليكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء) قال: ليس بالله - تعالى ذكره - إليكم حاجة وأنتم أحوج إليه. وقوله - تعالى ذكره -: ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) يقول - تعالى ذكره -: وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فترتدوا راجعين عنه ( يستبدل قوما غيركم) يقول: يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدقون به ، ويعملون بشرائعه ( ثم لا يكونوا أمثالكم) يقول: ثم لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله ، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم ، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يؤمرون به.
فعلى وجه معتبر في التفسير أصبح البخل عن الإنفاق في سبيل الله مدعاة لارتداد بأس ذلك على النفس، وانسحب ذلك على جمهرة المسلمين، الذين إن أضاعوا سبيل الطاعة، حد الكفر، أو دونه – طبقاً لأقوال مختلفة للمفسرين، منها أربعة أوجه ذكرها الماوردي في تفسيره: "أحدها: وإن تتولوا عن كتابي. الثاني: عن طاعتي. الثالث: عن الصدقة التي أُمرتم بها. الرابع: عن هذا الأمر فلا تقبلونه" – استحقوا الوقوع تحت طائلة الاستبدال، وإذ ذاك، " ثم لا يكونوا أمثالكم "، سيكونون على جادة لا تعرف الحيدة عن طريق الحق، ولا تعرف البخل عن بناء هذا الصرح الإسلامي الكبير. إن سنة الله حاكمة، تخاطب بها هذه الأمة مثلما خوطبت بها غيرها. لقد نزلت هذه الآية على من نزلت إليهم هذه الآية: "كنتم خير أمة أخرجت للناس.. " ولا تعارض؛ فإن الخيرية رهينة بما تلا هذه البداية: " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ".
فوصفه بالغنى وصف لازم له، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم، أي لا ينفكون عنه". وقال القشيري: "الفقير الصادق من يشهد افتقاره إلى الله. وصدق الفقير في شهود فقره إلى الله. ومن افتقر إلى الله استغنى بالله، ومن افتقر إلى غير الله وقع في الذّلّ والهوان. ويقال: الله غنيّ عن طاعتكم، وأنتم الفقراء إلى رحمته. ويقال: الله غنيّ لا يحتاج إليكم، وأنتم الفقراء لأنكم لا بديل لكم عنه". " وإن تتولوا "، قال السعدي: "عن الإيمان بالله، وامتثال ما يأمركم به " يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ " في التولي، بل يطيعون الله ورسوله، ويحبون الله ورسوله، كما قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "" وقد ذكر المفسرون أقوالاً عدة في هؤلاء الذين يستبدلون بالمخاطبين في الآية، فقيل اليمن وقيل الفرس وقيل الروم وقيل الملائكة وقيل سائر الناس، واختاره مجاهد. والمعنى أن الله سيستبدل بكم آخرين سامعين مطيعين له ولأوامره، كما قال ابن كثير. وبحسب جمهرة من المفسرين؛ فإن الآية عامة في أنواع البخل عن الإنفاق الواجب، وفيه ما يحيل هذه الأمة إلى مصير بائس إن هي أبطأت عن الإنفاق في سبيل الله، وترهيباً من التولي عن طاعة الله وتحذير من أن يجري على المتولين سنة الاستبدال التي جرت على أمم سابقة.