والفاء في قوله فمن تبعني فإنه مني... تفريعية، حيث تفرع عن التعليل في قوله: رب إنهن أضللن كثيرا... تقسيم الناس قسمين: قسم تبع ابراهيم فيما دعا إليه من التوحيد فهو من منسوب إليه أي أنه من أهل دينه، وقسم أصر على الشرك وعبادة الأصنام فأمره موكول إلى الله تعالى. و(من) في قوله (مِني) يجوز أن تكون تبعيضية على التشبيه أي فإنه كبعضي في عدم الانفكاك، لفرط اختصاصه بي وملابسته لي، ومن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (من غشنا فليس منا) أي ليس بعض المؤمنين على أن الغش ليس من أفعالهم ولا من أوصافهم. الباحث القرآني. ويجوز أن تكون (من) في الآية اتصالية، أي فإنه متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (أنت مني بمنزلة هارون من موسى). وتسميتها اتصالية، لأنه يفهم منها اتصال شيء بمجرورها، وقوله (ومن عصاني) أي ومن لم يتبعني، والتعبير عن عدم اتباعه بالعصيان، للإشعار بأنه - عليه السلام - مستمر على الدعوة، وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه وليس لتقصير إبراهيم - عليه السلام - في تبليغ الدعوة إليه. وبين الاتباع والعصيان طباق معنوي لما بينهما من تضاد في المعنى، فالاتباع طاعة، وعدم الاتباع عصيان.
والزون: الصنم. وملثمة: مقبلة. وقد شبه أروى بالصنم المجلو في البهاء والحسن. والوهنانة كما في اللسان: الكسل عن العمل تنعما. قال أبو عبيدة: الوهنانة التي فيها فترة.
وننتقل لتأمل صياغة الدعاء الثاني للخليل ابراهيم عليه السلام وهو في رحاب البيت: واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ووصل بين هذا الدعاء وسابقه لاتحاد الجملتين في الانشائية مع التناسب، وهو ما يطلق عليه مصطلح التوسط بين الكمالين واجنبني فعل أمر من جنب، يقال: جنبته الشيء، بفتح النون أي نحيته عنه وأبعدته، والجنب والجانب: الناحية، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل بمعنى البُعد، ومعنى الدعاء: وبَعدْني وبنيّ أن نعبد الأصنام، كأنما سأل ربه أن يقوده عن جانب الشرك بألطاف منه وأسباب خفية كما قدره الراغب. وآثر التعبير ب اجنبني على التعبير ب أبعدني؟ لما في اجنبني من معنى البعد وزيادة معنى آخر هو جعله في جانب آخر غير ماهي (أي الأصنام) فيه. دعاء في الحرم | صحيفة الخليج. وخرج الأمر اجنبني عن معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي وهو الدعاء، والمراد طلب الدوام والثبات على التوحيد، والبعد عن عبادة الأصنام. والمراد ببنيه اسماعيل وإسحاق عليهما السلام أبناء صلبه، فهو من باب التغليب، تغليب الجمع على التثنية، أو استعمال الجمع في التثنية، وقيل: المراد ببنيه جميع نسله تعميما للخير فاستجيب له في البعض. وأوثر المصدر المؤول (أن نعبد) على المصدر الصريح (عبادة) لأن في استعمال الفعل المضارع إشارة إلى عدم وقوعهم في عبادتها، ويطلب لهم الثبات على ذلك مستقبلا.
كما حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم لا والله ما كانوا طَعَّانين ولا لعَّانين ، وكان يقال: إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان ، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلام إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ------------------------ الهوامش: (1) البيت في ( مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 342) قال: جنبت الرجل الأمر ، وهو يجنب أخاه الشر ، وجنبته ( بتشديد النون) واحد ، وأنشد البيت ، وشدده ذو الرمة فقال: وشــعر قــد أرقــت لـه بليـل أجنبـــه المســـاند والمحـــالا يريد أن المرأة تشفق على طفلها ، فتنفض فراشه خوفا عليه مما يؤذيه ، ولا تركب به النوق الفتية ، وهي القلائص ، لأن نشاطها في السير يؤذيه ، وقال الفراء في معاني القرآن ، ( الورقة 164) أهل الحجاز يقولون: جنبني ، خفيفة ، وأهل نجد يقولون: أجنبني شره ، وجنبني شره. (2) البيت لرؤبة من. أرجوزة له مطلعها: " قلت لزير لم تصله مريمة " ، وقوله " وهنانة ": صفة لأروى في البيت قبله وهو: " إذا حب أروى همه وسدمه ".