وقوله ( إذ نفشت فيه غنم القوم) يقول: حين دخلت في هذا الحرث غنم القوم الآخرين من غير أهل الحرث ليلا فرعته أو أفسدته ( وكنا لحكمهم شاهدين) يقول: وكنا لحكم داود وسليمان والقوم الذين حكما بينهم فيما أفسدت غنم أهل الغنم من حرث أهل الحرث شاهدين لا يخفى علينا منه شيء ، ولا يغيب عنا علمه. وقوله ( ففهمناها) يقول: ففهمنا القضية في ذلك ( سليمان) دون داود ، ( وكلا آتينا حكما وعلما) يقول: وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أول هذه السورة آتينا حكما وهو النبوة ، وعلما: يعني وعلما بأحكام الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. تفسير سورة الأنبياء. حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا: ثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم) قال: كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته ، قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان غير هذا يا نبي الله ، قال: وما ذاك ؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله ( ففهمناها سليمان).
وكنا لهم حافظين ؛ أي: لا يقدرون على الامتناع منه وعصيانه، بل حفظهم الله له بقوته وعزته وسلطانه.
وقرأ: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78، 79]، فحمد سليمان ولم يلُم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده"؛ اهـ. وقوله عز وجل: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾؛ أي: وكان حكمهما بمرأى منا لم يخفَ علينا شيء منه، وقد أثنى الله عز وجل بهذا على داود وسليمان؛ حيث ذكرهما بصيغة الجمع المشيرة للتعظيم، وهما اثنان، ومن الأساليب العربية الفصيحة أن يذكر الواحد أو الاثنان ثم يذكر ضمير الواحد أو ضمير الاثنين بصيغة الجمع للتعظيم، كما ذكر عز وجل عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك، فقال عنها وهي واحدة: ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26] وقال هنا عن داود وسليمان: ﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾. وقوله تبارك وتعالى: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾، (الفاء) عاطفة على (يحكمان)؛ لأنه في معنى الماضي، والضمير المنصوب للقضية المفهومة من الكلام أو للحكومة المدلول عليها بذكر الحكم، يعني: عرفنا هذه القضية وعلمنا الصواب فيها سليمان، ولم يُعلم أن دواد اعترض على حكم سليمان، بل أقره ورضي به ونفَّذه.