وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) القول في تأويل قوله عز ذكره: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ، وعد الله أيها الناس الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من عند ربهم، وعملوا بما واثقهم الله به، وأوفوا بالعقود التي عاقدَهم عليها بقولهم: " لنسمعن ولنطيعنَّ الله ورسوله " فسمعوا أمر الله ونهيه وأطاعوه، فعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه. (201) ويعني بقوله: " لهم مغفرة " لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم= " مغفرة " وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم وتغطيتها بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها (202) = " وأجر عظيم " يقول: ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم، جزاءً على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها= " أجر عظيم " ، و " العظيم " من خيره غير محدود مبلغه، ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره. (203) * * * فإن قال قائل: إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولم يخبر بما وعدهم، فأين الخبر عن الموعود؟ قيل: بلى (204) إنه قد أخبَر عن الموعود، والموعود هو قوله: " لهم مغفرة وأجر عظيم ".
من الآيات المبشرات التي تستشرف مستقبل أمة الإسلام ما جاء في قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور:55). روى الطبري بسنده عن أبي العالية ، قوله: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات} الآية، قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفاً يدعو إلى الله سرًّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة. قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفون، يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع عنا السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تَغْبُرُون -أي: لا تبقون- إلا يسيراً ، حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبياً فيه -(احتبى) جلس على أليتيه، وضم فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعيه ليستند- ليس فيه حديدة). فأنزل الله هذه الآية { وعد الله الذين آمنوا منكم} إلى قوله: { فمن كفر بعد ذلك} قال: يقول: من كفر بهذه النعمة { فأولئك هم الفاسقون} وليس يعني الكفر بالله. قال: فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا، ثم تجبروا، فغيَّر الله ما بهم، وكفروا بهذه النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم.
قال الربيع بن أنس عن أبي العالية في هذه الآية: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وإلى عبادته وحده بلا شريك له، سرا وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال; حتى أمروا بعد الهجرة إلى المدينة، فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح; فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من الصحابة قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عن السلاح؟ فقال رسول الله - صلى عليه وسلم -: "لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم ليست فيه حديدة". وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله قبض نبيه - صلى الله عليه وسلم - فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان ، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه، فأدخل الله عليهم الخوف; فاتخذوا الحجزة والشرط، وغيروا فغير بهم.. ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.. الخارجون على شرط الله، ووعد الله، وعهد الله. لقد تحقق وعد الله مرة. وظل متحققا وواقعا ما قام المسلمون على شرط الله: يعبدونني لا يشركون بي شيئا.. لا من الآلهة ولا من الشهوات، ويؤمنون - من الإيمان - ويعملون صالحا، ووعد الله مذخور [ ص: 2530] لكل من يقوم على الشرط من هذه الأمة إلى يوم القيامة، إنما يبطئ النصر والاستخلاف والتمكين والأمن؛ لتخلف شرط الله في جانب من جوانبه الفسيحة; أو في تكليف من تكاليفه الضخمة حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء، وجازت الابتلاء، وخافت فطلبت الأمن، وذلت فطلبت العزة، وتخلفت فطلبت الاستخلاف، كل ذلك بوسائله التي أرادها الله، وبشروطه التي قررها الله، تحقق وعد الله الذي لا يتخلف، ولا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا. ويتوجه بهذا كله إلى الله، يتمثل هذا في قول الله –سبحانه - في الآية نفسها تعليلا للاستخلاف والتمكين والأمن: يعبدونني لا يشركون بي شيئا والشرك مداخل وألوان، والتوجه إلى غير الله بعمل أو شعور هو لون من ألوان الشرك بالله. [ ص: 2529] ذلك الإيمان منهج حياة كامل، يتضمن كل ما أمر الله به، ويدخل فيما أمر الله به توفير الأسباب، وإعداد العدة، والأخذ بالوسائل، والتهيؤ لحمل الأمانة الكبرى في الأرض، أمانة الاستخلاف. فما حقيقة الاستخلاف في الأرض؟ إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم، إنما هي هذا كله على شرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه; وتصل عن طريقه إلى مستوى الكمال المقدر لها في الأرض، اللائق بخليقة أكرمها الله. إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!
وقوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ). اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: لا يستوي منكم أيها الناس من آمن قبل فتح مكه وهاجر. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) قال: آمن فأنفق، يقول: من هاجر ليس كمن لم يهاجر. حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) يقول: من آمن. قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: يقول غير ذلك. وقال آخرون: عني بالفتح فتح مكة، وبالنفقة: النفقة في جهاد المشركين. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) قال: كان قتالان، أحدهما أفضل من الآخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كانت النفقة والقتال من قبل الفتح " فتح مكة " أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) قال: الجنة. وقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يقول تعالى ذكره: والله بما تعملون من النفقة في سبيل الله، وقتال أعدائه، وغير ذلك من أعمالكم التي تعملون خبير، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميع ذلك يوم القيامة.