وثانيها: أن الرياح حسمت كل خير ، واستأصلت كل بركة ، فكانت حسوما ، أو حسمتهم ، فلم يبق منهم أحد ، فالحسوم على هذين القولين جمع حاسم. الباحث القرآني. وثالثها: أن يكون الحسوم مصدرا كالشكور والكفور ، وعلى هذا التقدير فإما أن ينتصب بفعله مضمرا ، والتقدير: يحسم حسوما ، يعني استأصل استئصالا ، أو يكون صفة ، كقولك: ذات حسوم ، أو يكون مفعولا له ، أي سخرها عليهم للاستئصال ، وقرأ السدي: ( حسوما) بالفتح حالا من الريح ، أي سخرها عليهم مستأصلة ، وقيل: هي أيام العجوز ، وإنما سميت بأيام العجوز ؛ لأن عجوزا من عاد توارت في سرب ، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها ، وقيل: هي أيام العجز وهي آخر الشتاء. قوله تعالى: ( فترى القوم فيها صرعى) أي في مهابها ، وقال آخرون: أي في تلك الليالي والأيام: ( صرعى) جمع صريع. قال مقاتل: يعني موتى يريد أنهم صرعوا بموتهم ، فهم مصرعون صرع الموت. ( كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة) [ ص: 93] ثم قال: ( كأنهم أعجاز نخل خاوية) أي كأنهم أصول نخل خالية الأجواف لا شيء فيها ، والنخل يؤنث ويذكر ، قال الله تعالى في موضع آخر: ( كأنهم أعجاز نخل منقعر) ( القمر: 20) وقرئ: ( أعجاز نخيل) ، ثم يحتمل أنهم شبهوا بالنخيل التي قلعت من أصلها ، وهو إخبار عن عظيم خلقهم وأجسامهم ، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ، أي أن الريح قد قطعتهم حتى صاروا قطعا ضخاما كأصول النخل.
وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة والكسائي ( وَمَنْ قِبَلِهِ) بكسر القاف وفتح الباء، بمعنى: وجاء مع فرعون من أهل بلده مصر من القبط. والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقوله: ( وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) يقول: والقرى التي أتفكت بأهلها فصار &; 23-576 &; عاليها سافلها( بِالْخَاطِئَةِ) يعني بالخطيئة. وكانت خطيئتها: إتيانها الذكران في أدبارهم. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ)، قرية لوط. القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة الحاقة - الآية 9. وفي بعض القراءات ( وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ). حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) قال: المؤتفكات: قوم لوط، ومدينتهم وزرعهم، وفي قوله: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى قال: أهواها من السماء: رمى بها من السماء؛ أوحى الله إلى جبريل عليه السلام، فاقتلعها من الأرض، ربضها ومدينتها، ثم هوى بها إلى السماء؛ ثم قلبهم إلى الأرض، ثم أتبعهم الصخر حجارة، وقرأ قول الله: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً قال: المسوّمة: المُعَدَّة للعذاب.
قوله تعالى: ﴿إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية﴾ إشارة إلى طوفان نوح والجارية السفينة، وعد المخاطبين محمولين في سفينة نوح والمحمول في الحقيقة أسلافهم لكون الجميع نوعا واحدا ينسب حال البعض منه إلى الكل والباقي ظاهر. قوله تعالى: ﴿لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية﴾ تعليل لحملهم في السفينة فضمير ﴿لنجعلها﴾ للحمل باعتبار أنه فعله أي فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمرا تتذكرون به وعبرة تعتبرون بها وموعظة تتعظون بها. وقوله: ﴿وتعيها أذن واعية﴾ الوعي جعل الشيء في الوعاء، والمراد بوعي الأذن لها تقريرها في النفس وحفظها فيها لترتب عليها فائدتها وهي التذكر والاتعاظ. ولقد جاء آل فرعون النذر - مع القرآن (من الأحقاف إلى الناس) - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام. وفي الآية بجملتيها إشارة إلى الهداية الربوبية بكلا قسميها أعني الهداية بمعنى إراءة الطريق والهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب. توضيح ذلك أن من السنة الربوبية العامة الجارية في الكون هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله اللائق به بحسب وجوده الخاص بتجهيزه بما يسوقه نحو غايته كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ طه: 50، وقوله: ﴿الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ الأعلى: 3، وقد تقدم توضيح ذلك في تفسير سورتي طه والأعلى وغيرهما.
ومن سنة الربوبية هداية الأشياء إلى كمالاتها بمعنى إنهائها وإيصالها إليها بتحريكها وسوقها نحوه، وإليها الإشارة بقوله: ﴿وتعيها أذن واعية﴾ فإن الوعي المذكور من مصاديق الاهتداء بالهداية الربوبية وإنما لم ينسب تعالى الوعي إلى نفسه كما نسب التذكرة إلى نفسه لأن المطلوب بالتذكرة إتمام الحجة وهو من الله وأما الوعي فإنه وإن كان منسوبا إليه كما أنه منسوب إلى الإنسان لكن السياق سياق الدعوة وبيان الأجر والمثوبة على إجابة الدعوة والأجر والمثوبة من آثار الوعي بما أنه فعل للإنسان منسوب إليه لا بما أنه منسوب إلى الله تعالى. ويظهر من الآية الكريمة أن للحوادث الخارجية تأثيرا في أعمال الإنسان كما يظهر من مثل قوله: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾ الأعراف: 96 أن لأعمال الإنسان تأثيرا في الحوادث الخارجية وقد تقدم بعض الكلام فيه. بحث روائي: في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله: ﴿لنجعلها لكم تذكرة﴾ قال: لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكم من سفينة قد هلكت وأثر قد ذهب يعني ما بقي من السفينة حتى أدركته أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأوه كانت ألواحها ترى على الجودي.
(p-١٢١)وشَمِلَ قَوْلُهُ ﴿ومَن قَبْلَهُ﴾ أُمَمًا كَثِيرَةً مِنها قَوْمُ نُوحٍ وقَوْمُ إبْراهِيمَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ومَن قَبْلَهُ﴾ بِفَتْحِ القافِ وسُكُونِ الباءِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ، أيْ ومَن كانَ مِن جِهَتِهِ، أيْ قَوْمُهُ وأتْباعُهُ. والمُؤْتَفِكاتُ: قُرى قَوْمِ لُوطٍ الثَّلاثُ، وأُرِيدَ بِالمُؤْتَفِكاتِ سُكّانُها وهم قَوْمُ لُوطٍ وخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِشُهْرَةِ جَرِيمَتِهِمْ ولِكَوْنِهِمْ كانُوا مَشْهُورِينَ عِنْدَ العَرَبِ إذْ كانَتْ قُراهم في طَرِيقِهِمْ إلى الشّامِ، قالَ تَعالى ﴿وإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧] ﴿وبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٨] وقالَ ﴿ولَقَدْ أتَوْا عَلى القَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها﴾ [الفرقان: ٤٠]. ووُصِفَتْ قُرى قَوْمِ لُوطٍ بِ (المُؤْتَفِكاتُ) جَمْعُ مُؤْتَفِكَةٌ اسْمُ فاعِلٍ ائْتَفَكَ مُطاوِعٌ أفَكَهُ، إذا قَلَبَهُ، فَهي المُنْقَلِباتُ، أيْ قَلَبَها قالَبٌ أيْ خَسَفَ بِها قالَ تَعالى ﴿فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها﴾ [الحجر: ٧٤].