يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ" [1]. وهل يكب الناس في جهنم الا حصائد السنتهم. لغة الحديث: الكلمة معناها حرمت الظلم على نفسي فاستهدوني استكسوني واستغفروني صعيد واحد المخيط عار أي لا يقع مني الظلم تعاليت وتقدست مع قدرتي على الظلم. أي اطلبوا مني الهداية. أي اطلبوا مني الكساء. أي اطلبوا مني المغفرة فالألف والسين والتاء في الغالب كلها تـأتي بمعنى الطلب. أي أرض واحدة. الإبرة. أي مفتقر للباس. فوائد مستنبطة من الحديث: 1- الحديث دليل على عظم جرم الظلم. (إني حرمت الظلم على نفسي) وذلك لكمال عدله.
8: أغلى المهمّات وأعلى الواجبات عبادة الله وحده لاشريك له، أي التوحيد. 9: رحمة الله بعباده أن فتح لهم أبواب الخير ليتزودوا من أسباب الأجر ومغفرة الذنوب. 10: فضل النبي -صلى الله عليه وسلم- في التعليم حيث يأتي بما لم يتحمله السؤال لقوله: "أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ"، وهذا من عادته أنه إذا دعت الحاجة إلى ذكر شيء يضاف إلى الجواب أضافه. 11: فضل التقرب بالنوافل بعد أداء الفرائض. 12: فضل إيثار ما يحبه الله على حظ النفس. 13: الصدقة تكفَّر بها السيئات. 14: فضل الصلاة في جوف الليل. 15: استدلال النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن مع أن القرآن أنزل عليه، لكن القرآن يستدل به لأن كلام الله -تعالى- مقنع لكل أحد، ولهذا تلا هذه الآية: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ) (السجدة: الآية16). شرح حديث: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه. 16: الصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه الخيمة، يذهب الإسلام بذهابها، كما تسقط الخيمة بسقوط عمودها. 17: فضل الجهاد. 18: كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله. 19: جواز الدعاء الذي لا تُقصد حقيقته بل لتأكيد الأمر أو الخبر لقوله: (ثكلتك أمك يا معاذ). 20: تشبيهه المعقول بالمحسوس في قوله: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار).
وكان أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود ، وأُبَيٍّ، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى حذيفة)) [1]. وأخرج أبو نعيم في الحلية، قال عمر: لو أدركت معاذًا ثم وليته ثم لقيت ربي، فقال: من استخلفت على أمة محمد؟ لقلت: سمعت نبيك وعبدك يقول: ((يأتي معاذ بن جبل بين يدي العلماء برتوة))، والرتوة: رمية سهم، وقيل: مد البصر. وهل يكب الناس في النار الا حصائد السنتهم. بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة تبوك قاضيًا ومرشدًا لأهل اليمن، فبقي في اليمن إلى أن توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وولي أبو بكر، فعاد إلى المدينة، ثم كان مع أبي عبيدة بن الجراح في غزوة الشام، ولما أصيب أبو عبيدة - في طاعون عمواس - استخلف معاذًا، وأقره عمر، فمات في ذلك العام، وكان من أحسن الناس وجهًا، ومن أسمحهم كفًّا، له مائة وسبعة وخمسون حديثًا، توفي عقيمًا بناحية الأردن، ودفن بالقصر المعيني بالغور سنة ثماني عشرة، فرضي الله عنه وأرضاه [2]. منزلة الحديث: ◙ هذا الحديث أصل عظيم متين، وقاعدة من قواعد الدين [3]. ◙ وقد تضمن الأعمال الصالحة التي تدخل الجنة وتبعد عن النار، وهذا أمر عظيم جدًّا؛ لأنه من أجل دخول الجنة والنجاة من النار أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب [4].
((قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به))؛ أي: إنا معاقبون بكل ما نتكلم به ((فقال)) له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثكلتك أمك))؛ أي: فقَدَتْك، وهو دعاء عليه بالموت على ظاهره، وليس المراد الدعاء عليه بالموت، بل جريًا على عادة العرب في الخطاب؛ كـ: تربت يداك، ولا أم لك، ولا أبا لك، وأشباه ذلك. ((وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم - أو قال: ((على مناخرهم - إلا حصائدُ ألسنتهم؟)) شبه ما يتكلم به الإنسان بالزرع المحصود بالمنجل، وهو من بلاغة النبوة، فكما أن المنجل يقطع ولا يميز بين الرطب واليابس والجيد والرديء، فكذلك لسان بعض الناس يتكلم بكل أنواع الكلام حسنًا وقبيحًا، والمعنى لا يكُبُّ الناسَ في النار إلا حصائدُ ألسنتهم؛ من الكفر، والقذف، والشتم، والغِيبة، والنميمة، والبهتان، ونحوها، وهذا الحكم وارد على الأغلب؛ لأنك إذا نظرت لم تجد أحدًا حفظ لسانه عن السوء إلا نادرًا. الفوائد من الحديث: 1- حرص معاذ بن جبل رضي الله عنه على الأعمال الصالحة. شرح وترجمة حديث: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله -تعالى- عليه - موسوعة الأحاديث النبوية. 2- إثبات الجنة والنار، وهما موجودتان، وهما لا تفنيان أبدًا. 3- أن أول شيء وأعظمه توحيد الله عز وجل، والإخلاص لله؛ لقوله: تعبد الله ولا تشرك به شيئًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالَّنَجْوَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَنَا عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. ما الجمال في حصائد ألسنتهم - اسال المنهاج. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ تَكَلَّمَ فِي النَّاسِ تَكَلَّمُوا بِهِ؛ فَالجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، وَكَمَا تَدِيْنُ تُدَانُ، قَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَدْرَكْتُ بِالمَدِينَةِ أَقْوَامًا لَيْسَ لَهُمْ عُيُوبٌ، فَعَابُوا النَّاسَ فَصَارَتْ لَهُم عُيُوبٌ، وَأَدْرَكْتُ بِالمَدِينَةِ أَقْوَامًا كَانَتْ لَهُم عُيُوبٌ، فَسَكَتُوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، فَنُسِيَتْ عُيُوبُهُم". وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُ -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِنِّي لَأَرَى الشَّيءَ أَكْرَهُهُ؛ فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَتَكَلَّمَ فِيهِ إِلَّا مَخَافَةَ أَنْ أُبْتَلَى بِمِثْلِهِ". احْفَظْ لِسَانَكَ لَا تَقُل فَتُبْتَلَى *** إِنَّ البَلَاءَ مُوَكَّلٌ بالمنْطِقِ لَقَدْ تَوَعَّدُ اللهُ بِالنَّارِ كُلَّ هَمَّازٍ لَمَّازٍ عَائِبٍ لِغَيْرِه: ( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)[الهمزة:1]، وَرَوى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " بِحَسْبِ اِمْرِئٍ مِنَ الشَّرِ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ ".
((وعموده: الصلاة))؛ أي: المفروضة، وعمود الشيء هو الذي يقيمه، ولا ثباتَ له في العادة بغيره، ولأن الصلاة عماد الدين وقوامه الذي يقوم به، وكما أن العمود يرفع البيت ويهيئه للانتفاع، فكذلك الصلاة ترفع الدِّين وتظهره. ((وذروة سنامه: الجهاد))؛ أي: أعلى ما في الإسلام وأرفعه الجهاد؛ لأن به إعلاء كلمة الله، فيظهر الإسلام ويعلو على سائر الأديان، وليس ذلك لغيره من العبادات، فهو أعلاها بهذا الاعتبار. وقيل: لا شيء من معالم الإسلام أشهر ولا أظهر منه، فهو كذروة السنام التي لا شيء من البعير أعلى منه، وعليه يقع بصر الناظر من بُعد. ووجه إيثار الإبل بالذكر في تشبيه مكانة الجهاد بذروة السنام أنها خيارُ أموالهم، ومن ثم كانوا يشبِّهون بها رؤساءهم؛ اهـ. ((ثم قال)) النبي صلى الله عليه وسلم ((ألا أخبرك بمِلاك ذلك)) الأمر ((كله؟ فقلت: بلى يا رسول الله)) أخبرني، ((فأخذ)) النبي صلى الله عليه وسلم ((بلسانه))، والمعنى أمسك لسان نفسه بيده، والحكمة في ذلك المبالغة في الزجر، ((وقال: كف عليك هذا))؛ أي: لا تتكلم بما لا يعنيك، وكفُّ اللسان عن المحارم سلامة، والسلامة في نظر العقلاء مقدمة على الغنيمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت)).