وجواب القسم «إنْ كُلُّ نَفْسٍ». و«إن» بمعنى «ما». و(لَمَّا): بالتشديد بمعنى إلا، وبالتخفيف «ما» فيه زائدة، وإنْ هي المخففة من الثقيلة؛ أي إن كل نفس لَعَليها حافظ. و(حافظ)مبتدأ، و(عليها): الخبر. ويجوز أنْ يرتفِعَ حافظ بالظَّرْف.
الخطبة الأولى: لقد أودع الله في الكون خلقًا فيه من بديع الصنع وعجيب الخلق ما يحير العقول ويُذهب الألباب، ما يدل على كمال حكمته وألوهيته وربوبيته، ففي الكون من الآيات والعجائب ما تجعل المتأمل يخر ساجدًا لعظمة الخالق وبديع صنعه: ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى)، ( وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا). وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد وأعجب ما في هذا الكون من الخلائق هو هذا الإنسان، هذا المخلوق العجيب في خلقه وتركيبه وصورته وما أودع الله فيه من عجائب الصنع والخلق، ولهذا قال الله: ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ)، ثم أورد قائلاً: ( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). فهذا الإنسان الذي يضرب في الأرض، معتدل الخلقة، تام الأعضاء، عجيب الهامة، أصله نطفة كانت مغيبة في صلب الرجل وترائب المرأة، ولا يعلم بمكانها إلا خالقها ومدبّر أمرها: ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ).
فيعلمُ بذلك أنه ليس هو الذي فعلَ تلكَ الأفعالَ بنفسِه، وأنَّ له صانعًا صنَعَه، وناقلًا نَقَلَهُ من حالٍ إلى حالٍ، ولولا ذلك لم تتبدلْ أحوالُه بلا ناقلٍ ولا مدبرٍ. وقالَ بعضُ الحكماءِ: إن كلَّ شيءٍ في العالمِ الكبيرِ له نظيرٌ في العالمِ الصغيرِ الذي هو بدنُ الإنسانِ ولذلك قال تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذرايات:21]. والسمعُ والبصرُ منها بمنزلةِ الشمسِ والقمرِ في إدراكِ المدركاتِ بها. وأعضاؤُه تصيرُ عند البِلى ترابًا من جنسِ الأرضِ. وفيه من جنسِ الماءِ العرقُ وسائرُ رطوباتِ البدنِ. ومن جنسِ الهواءِ فيه الروحُ والنفسُ. ومن جنسِ النارِ فيه المرةُ الصفراءُ. وعروقُه بمنزلةِ الأنهارِ في الأرضِ. وفي أنفسِكم أفلا تُبصرون | معرفة الله | علم وعَمل. وكَبِدُه بمنزلةِ العيونِ التي تستمدُّ منها الأنهارُ لأن العروقَ تستمدُّ من الكبدِ. ومثانَتُه بمنزلةِ البحرِ؛ لانصبابِ ما في أوعيةِ البدنِ إليها، كما تنصبُّ الأنهارُ إلى البحرِ. وعظامُه بمنزلةِ الجبالِ التي هي أوتادُ الأرضِ. وأعضاؤُه كالأشجارِ، فكما أنَّ لكلِّ شجرةٍ ورقًا وثمرًا، فَلِكُلِّ عضوٍ فعلٌ أو أثرٌ. والشعرُ على البدنِ بمنزلةِ النباتِ والحشيشِ على الأرضِ. ثمَّ إنَّ الإنسانَ يحكي بلسانِه كلَّ صوتِ حيوانٍ، ويحاكِي بأعضائِه صنعَ كلِّ حيوانٍ.
والنفس حالة برزخية بين الأصلين طيف يغمر الجسد ويحيط به، ويتأرجح هذا الوليد بين تياري الروح والمادة فينزع إلى الأعلى تارة ويرزح نحو الأسفل طوراً، قال تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض}. ومن القليل الذي نراه من الروح أنها سر حياة الجسد وطالما بقيت الروح في الجسد طالما استمرت حياته، حتى يتوفى الإنسان فتعود الروح من حيث أتت وأما النفس فقد ارتهنت بما كسبت. قال تعالى: [ كل نفسٍ بما كسبت رهينة]. فإذا صلحت النفس كانت وجهتها إلى الروح والعالم العلوي فاهتمت بمكارم الأخلاق والارتقاء والتعرف إلى الحياة الاخرة. وإذا فسدت كانت توجهاتها إلى الجسد فغرقت في المادة والشهوات البهيمية ومالت إلى النقائص. قال تعالى:{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}. وورد أن مركز النفس في أسفل القلب وأن الروح تعلوه:".. وأما موضع النفس ففي القلب معلق بالنياط والنياط يسقي العروق، فإذا هلك القلب انقطع العرق ". وبالعبارة العلمية البطين الأيسر هوالذي يسقي العروق. تحميل كتاب وفي انفسكم افلا تبصرون pdf. وأما القلب فله وظيفته العضوية ووظيفته الروحية وهو في الحالتين مسؤول عن بقية الأعضاء فيضخ إليها الدم والغذاء والأوكسجين وكذلك النور أو الظلام، وفي الحديث الشريف: "القلب ملك، وله جنوده؛ فإذا صلح الملك صلح جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده.