الرجوع للمدينة ووفاته وبعد على بن أبي طالب كان مع الحسن بن علي حتى صالح معاوية. ورفض قيس بن سعد مبايعة معاوية حتى يشترط لشيعة علي ولمن كان اتبعه على أموالهم ودمائهم، ولم يلن له حتى أرسل معاوية إليه بسجل قد ختم عليه في أسفله حتى يكتب فيه قيس ما يشاء، فاشترط قيس فيه له ولشيعة علي على الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال ولم يسأل معاوية في سجله ذلك مالاً لنفسه، فرجع قيس إلى المدينة فأقام فيها حتى وفاته. توفي بالمدينة في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان سنة ستين للهجرة. آثاره كان أحد الفضلاء الجلّة المشهورين بالنجدة والسخاء والشجاعة، وكان أبوه وجده كذلك. ويقال إنه لم يكن في الأوس والخزرج أربعة مطعمون متتالون في بيت واحد إلا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم، ولا كان مثل ذلك في سائر العرب أيضاً، إلا ما كان من عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف وآبائه وأجداده. فقد كان قيس في جيش العسرة، وكان ينحر ويطعم حتى استدان بسبب ذلك، فنهاه أبو عبيدة بن الجراح عن ذلك. وروي أن رجلاً استقرض منه ثلاثين ألفاً فلما ردها عليه أبى أن يقبلها، وقال: إنّا لا نعود في شيء أعطيناه. وعن نافع قال: «مرّ ابن عمر على أطم سعد فقال لي: يا نافع هذا أطم جده، لقد كان مناديه ينادي يوماً في كل حول: من أراد الشحم واللحم فليأت دار دليم، فمات دليم فنادى منادي عبادة بمثل ذلك، ثم مات عبادة فنادى منادي سعد بمثل ذلك، ثم قد رأيت قيس بن سعد يفعل ذلك، وكان قيس جواداً من أجواد الناس».
فأمر أبو عبيدة بالزاد ، فجمع; حتى كانوا يقتسمون التمرة. فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمرا بجزر ، يوفيني الجزر هاهنا وأوفيه التمر بالمدينة. فجعل عمر يقول: يا عجبا لهذا الغلام ، يدين في مال غيره. فوجد رجلا من جهينة ، فساومه ، فقال: ما أعرفك! قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم. فقال: ما أعرفني بنسبك أما إن بيني وبين سعد خلة سيد أهل يثرب فابتاع منه خمس جزائر ، كل جزور بوسق من تمر ، وأشهد له نفرا. فقال عمر: لا أشهد ، هذا يدين ولا مال له ، إنما المال لأبيه. فقال الجهني: والله ما كان سعد ليخني بابنه في شقة من تمر ، وأرى وجها حسنا ، فنحرها لهم في ثلاثة مواطن. فلما كان في اليوم الرابع ، نهاه أميره ، وقال: تريد أن تخرب ذمتك ولا مال لك. قال فحدثني محمد بن يحيى بن سهل ، عن أبيه ، عن رافع بن خديج قال: بلغ سعدا ما أصاب القوم من المجاعة ، فقال: إن يك قيس كما [ ص: 106] أعرف ، فسوف ينحر للقوم ، فلما قدم ، قص على أبيه ، وكيف منعوه آخر شيء من النحر ، فكتب له أربع حوائط أدنى حائط منها يجد خمسين وسقا. فقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه ، قال: أما إنه في بيت جود. أبو عاصم: حدثنا جويرية ، قال: كان قيس يستدين ، ويطعم ، فقال أبو بكر وعمر: إن تركنا هذا الفتى ، أهلك مال أبيه ، فمشيا في الناس ، فقام سعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: من يعذرني من ابن أبي قحافة وابن الخطاب ، يبخلان علي ابني.
فبعث محمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة إلى مصر ، وأمر ابن أبي بكر. فلما قدما على قيس بنزعه ، علم أن عليا قد خدع فقال لمحمد: يا ابن أخي احذر ، يعني أهل مصر ، فإنهم سيسلمونكما ، فتقتلان. فكان كما قال. [ ص: 109] وعن يزيد بن أبي حبيب: قال: ضبط قيس مصر ، وكان ممتنعا بالمكيدة والدهاء من معاوية وعمرو ، أدر الأرزاق عليهم ، ولم يحمل إلى أهل الشام طعاما ، قال: فمكرا بعلي ، وكتب معاوية كتابا من قيس إليه ، يذكر فيه ما أتى إلى عثمان من الأمر العظيم وإني على السمع والطاعة. ثم نادى معاوية: الصلاة جامعة ، فخطب ، وقال: يا أهل الشام ، إن الله ينصر خليفته المظلوم ، ويخذل عدوه أبشروا. هذا قيس بن سعد ناب العرب قد أبصر الأمر ، وعرفه على نفسه ، ورجع إلى الطلب بدم خليفتكم ، وكتب إلي. فأمر بالكتاب فقرئ ، وقد أمر بحمل الطعام إليكم ، فادعوا الله لقيس ، وارفعوا أيديكم ، فعجوا وعج معاوية ، ورفعوا أيديهم ساعة ، فقال معاوية لعمرو: تحين خروج العيون ، ففي سبع أو ثمان يصل الخبر إلى علي ، فيعزل قيسا ، وكل من ولي مصر كان أهون علينا. فلما ورد على علي الخبر ، دخل عليه محمد بن أبي بكر والأشتر ، وذما قيسا ، وجعل علي لا يقبل.