في هذا البعد لا يعود المكان الجغرافيّ مستودع ميثولوجيا، ولكن المكان الغيبيّ، المسكون بالحرية، يغدو هو المستودع. المستودع الذي يبتلع المكان، ويستوعب كل الأمكنة، لتستعير الميثولوجيا عبقرية المكان، لأنها الحجّة التي وُجدت لتنفي وجود المكان، بماهيّتها كروح مكان. ولهذا السبب صارت الميثولوجيا بلا جنسيّة، بلا هويّة، لأن الوديعة التي تسكنها هي الحقيقة المغتربة بطبيعتها عن كل ما متّ بعلاقة للمكان. ولهذا أيضاً هيمن مفهوم الأسطورة المهاجرة في عالمنا، كأسطورة الخلق، أو أسطورة الطوفان، الجارية في أدبيات كل الأمم. ولمّا كان المكان ميثولوجيّاً، فمن الطبيعي أن يكتسب قرينه الزمان هوية ميثولوجية أيضاً. فالزمن الميثولوجي سرمديّ، مطلق، لا يعترف بالقسمة الشائعة القاضية بحشره في ثالوث الأمس واليوم والغد. إنه زمن يسكن البعد المفقود، ولذا فوحده خالد. المناخ الميثولوجي يهيمن على كل الواقع الإنساني. فالدّين أيضاً يتنفّس برئة الميثولوجيا، فيحقن مفهوم «الكتاب المقدّس» بهويّة المؤلف المجهول، إمعاناً في محو الهوية الدنيوية. تقويم هجري شمسي - DeannaGoble. والواقع أن المفهوم لا يكتفي بنفي صفة المجهول عن المؤلّف، ولكنه يغامر، في أحيانٍ كثيرة، بنفي المبدأ الأرضي للكتاب، عندما يستنزل فيه البعد الضائع، لدى بعض الأمم، مع تعمّد الإحتفاظ بروح المتن، المنسوب للأصل المفقود عادةً، تعبيراً عن الظمأ الخالد إلى الألوهة.
قيمة أي إبداع إنّما تسكن الموقف من الميثولوجيا. تسكن تحديداً المكان الذي ينتمي إلى طينة الإبداع. وهو ما يعني أن قيمة المكان إنّما تسكن ميثولوجيا المكان. من فوائد خط الطول معرفة الوقت في أجزاء مختلفة من الأرض - موسوعة حلولي. لأن هذه الميثولوجيا هي التي تبدع هوية المكان، هوية هذا المكان، لتمييزه عن أيّ مكان؛ فهي وحدها المفوّضة بتلفيق واقع المكان، الذي لن يكون في النتيجة سوى ذخيرة المكان، ثروة المكان، التي ستسوّق كحجّة تصنع مجد المكان. ولكن هل تكتفي الميثولوجيا باعتناق دور الناطق بلسان المكان كمكان؟ الواقع أننا لا نستطيع أن نعترف للميثولوجيا بهذا الشرف ما لم تتفوّق على نفسها، وتنتحل صلاحيات الناطق الرسمي باسم روح المكان، وليس باسم المكان، كمجرد مكان. فهذه الكاهنة التي ترطن بلسان الشعر، وتعتنق دين الفلسفة، وتحترف تلاوة صلواتها في محراب معبودٍ هو الوجود، تتباهى بماهيّة ترجمان الزمن الضائع، مستعيرةً سلطة ذاكرة: ذاكرة الواقع المنسي. والواقع هنا واقعان في طبيعة المكان، في طبيعة أيّ مكان: واقع حرفيّ، وآخر روحي. ولمّا كنّا على يقين القدّيس بولس الذي يتغنَّى: «نحن غير معنيين بالأشياء التي تُرَى، ولكن بالأشياء التي لا تُرَى، لأن الأشياء التي تُرى، وقتيّة، ولكن الأشياء التي لا تُرى فأبديّة»، فليس لنا إلّا أن نؤمن بوجوب استنطاق البُعد الذي يبدو مغترباً في واقع المكان، الواقع المستخفّ بكل ما ارتضى أن يبقى غنيمة رؤية، مقابل البحث عن البعد الضائع في المكان، المفتون بسلطان حدسٍ يعتنق دين الرؤيا ، بدل الإكتفاء بغنيمة حسّ هي الرؤية.
وهو ما يعني أن العالم الذي كان شاهداً على رخاوة في الطبيعة، لن يضيره ألّا يكون شاهداً أيضاً على طفولة: طفولة جنينٍ هو: الإنسانية، في واقع طفولة طبيعة، مشفوع بطفولة الزمن، استكمالاً لبنود المعادلة. وأحسب أن العقدة ستبقى قائمة مع حجّة الطبيعة ما لم يتدخّل علماء الجيولوجيا ليُجيبونا عن تساؤلنا بعملية حسابية: كم يستغرق الطين من زمن كي يتحوّل صلداً؟ الرقم سيكون أسطورياً أيضاً بالطبع، بل فلكيّاً، لأن المهلة لن تقلّ عن ملايين الأعوام، ولكنها تبقى جديرة بروح إنسان يعتنق دين المنسيّ، فيطلق على الأساطير إسم: «إيمايّان» الدالّ، في لغة أمّة أسطورية كالطوارق، على «المنسيّات» أو «المهملات»، أو «المهجورات»، كناية عن مبدأ سقط من خزنة الذاكرة. فحتّى في حال استنجدنا بالجمجمة ذات السبعة ملايين سنة، المكتشفة في الصحراء الكبرى في الآونة الأخيرة، فإن حجّة «الحجارة الرخوة» ستبقى رمية محال في قاع بئر الزمن الضائع، كإهانة في حقّ التاريخ، مستجيرةً بتلابيب شطحة خيالٍ جسور، مسكونٍ بحدسٍ موسوسٍ برؤية شعرية، تعبيراً عن حداثة العهد بالمهد الوجوديّ، لمعالجة تجربة حرفيّة، ترطن بمنطق درس أخلاقيّ، صيغ في أمثولة، تصلح لأن تكون لأجيال الخلف خارطة طريق.
فهل مازلنا في حاجة لشهادة، أو صكّ غفران، من جناب التاريخ كي نؤمن ببطلان حقّ الزمن الضائع في البرهنة على وجود، بعد اكتشاف «شليمان»؟ أليس من حقّنا، بعد الآن، أن نتساءل عن موقف الزمن الضائع (الميثولوجي) من جلّاد التاريخ، بعد أن كنّا نتساهل، فنتساءل عن موقف التاريخ من ثروات هذا الزمن المنسيّ؟ يستهلّ دهاة الطوارق كل سيرة أُريد لها أن تنتمي إلى البُعد الزمني المغتنم من قبل النسيان: »Aidagh iga animer ebdagan kadewan« (حدث هذا عندما كانت الحجارة مازالت رخوة). ما معنى أن يحدث في زمن مازالت فيه الحجارة رخوةً؟ هذا يعني أن الحدث ينتمي إلى زمن أسطوري، ليس يسيراً تخيّل مدى قدمته، لأن أن يشهد حدوث الحدث ماضياً موغلاً في القدم، عندما كانت الحجارة رخوة، إنّما يعني أن طينة الأرض كلها مازالت وحلاً، أي أن طينة العالم مازالت في طور التكوين. وهو التحدّي السافر والأكثر استعصاء في حقّ تاريخ لا يعترف في ذاكرته سوى بحجّة هشّة هي المدوّنة. وها هم قدماء العرب يهرعون لنا بالبرهان على حقيقة الزمن الميثولوجي فيطلقون على هذا الزمن المغترب، عندما كانت الحجارة فيه مازالت رطبة، إسم «الفطحل»، حسماً للجدل. والواقع أن الجدل، منذ هذه الساعة، لن يبقى مع جناب التاريخ، ولكنه سيتطوّر لينشب مع الطبيعة نفسها، لأنها وحدها المخوّلة بأن تنبّئنا عن حقيقة الزمن الذي كانت فيه حجارتها رخوةً!
(وكالات)
واستدعاء الدوال الصوفية وتكرار دورانها داخل الديوان من قبيل: الحضرة والمقام وتوظيف قصة بلقيس مع سليمان بصورة فنية تغدو فيه أقرب إلى النص الغائب ويظهر ذلك فى قوله " قال: بلقيس تأبى المرور على كف ذاك النبى / قيل: بلقيس رمز انتظار السماء ومأدبة الأرض / حين توزع خبز السعادة محشوة بالأمل ".