أعرف فتاة تطبخُ وتُحْسِن الطبخ، ثم تظنُّ أنَّ الطبخ وحدَه هو مِفتاح برِّها لأُمِّها، فتبيح لنفسها إعلاء صوتها على صوت أُمِّها، والاستبداد في البيت، وكأنها رَبَّةُ البيت، وحين قلتُ لها: إن هذا من العقوق، قالتْ لي: وأين ذهبتْ تلك السنوات التي قضيتُها في المطبخ؟ أليستْ من البرِّ؟! أترين أنني قد وضعتُها في دار العجزة؛ لتقولي لي بأن هذا من العقوق؟! لقد قصَرتْ هذه الفتاة برَّ الوالدين على "الطهي"، وقَصَرت العقوق على "دار الإيواء"! متناسية أن إجادة الطهي إنَّما يرضيها هي، ويُشبِع حاجةً في نفسها، أما والدتها فلا تريد منها سوى التزام الهدوء، ومراعاة وضْع الأسرة ماديًّا. فلا تكوني كهذه الفتاة ومثيلاتها، اللاتي ينظرْنَ إلى البرِّ من زاوية ضيِّقة، ويحجرْنَ واسعًا، ويُرْضِينَ أنفسَهنَّ ثم يَقُلْنَ: إنَّ هذا من البرِّ! كيف ابر امي في حياتها و بعد مماتها و أفضل صيغة دعاء لها. اقتربي من والدتكِ، واعرفي طريقة تفكيرِها، وافهمي نفسيَّتها، وفتِّشي عن مدخلها الذي يُرضيها أن تدخلي إليها منه، وأنا مُوقِنة بأنَّكِ ستنجحين في العثور على ضالتكِ، وستجاهدين؛ كي تبرِّي والدتكِ، ودليلُ ذلك أنَّكِ تركتِ الكتابة عن مشكلاتك الخاصَّة، وصببتِ جُلَّ اهتمامكِ في كيفيَّة برِّ والدتك، وهذا والله من البرِّ.
[١٢] [١٣] المراجع
عقوقُ الأمِّ وإن كان مِن أكبر الكبائر إلا أنَّه تُكفِّره التوبة النصوح، وهي الخالصة مِن كل غشٍّ؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]، وقد فسَّرها أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن يَتوب مِن الذَّنب ثم لا يعود إليه". وأَبشِري فإنَّ التائب مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له؛ كما في الحديث الصحيح، فاستَغفري الله تعالى بقلبك مع لسانك، فكلُّ مَن تاب توبة صحيحة غُفرتْ ذنوبه، وقد بينَّا شروط التوبة وأحوال التائبين في استِشارات سابقة، فراجعيها على الشبكة ومنها: كيفية التوبة ، كيف أشعر بالتوبة؟ أريد أن أتوب توبة صادقة. والحاصل - سلَّمكِ الله - أن التوبة النصوح المستوفيَة لشُروطها وأركانها، تكون مقبولةً ماحية للذنب، وصاحبُه معفوٌّ عنه، ولا يُعاقَب صاحبه في الدنيا ولا في الآخرة؛ قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (16 / 30): "ونحن حقيقة قولنا أنَّ التائب لا يعذَّب لا في الدنيا ولا في الآخرة لا شرعًا ولا قدرًا" انتهى.
لن يسألك الله عن قدر محبتكِ لوالدتك، ولن يُعاقبك على شعورك بالنفور والرغبة عنها, ولن يحاسبك على تجنُّبها واتِّقاء مجالستها؛ خوفًا مِن حدوث مشكلة، أو نشوب حرب أو تطاولها عليك, ولن يسألك عن أعمالها أو سوء خُلقها, إلا أن تنصحي ما استطعتِ إلى ذلك سبيلًا, فإن لم تجدي للنُّصْح مِن سبيل, أو تبيَّن لك أنه سيُسْفِر عن ضررٍ أكبر، أو يُدخلك في دائرة العقوق, فلا أقل مِن الدعاء لها بالهداية وصلاح الحال. ولك في خليل الله إبراهيم - عليه السلام - خيرُ أُسوة؛ فقد كان والدُه كافرًا, ويتوعَّده أشد الوعيد؛ ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46], فما كان جوابُه على تلك القسوة وهذا البطش إلا أن قال: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [مريم: 47], فتجنَّبي مُواجهتها بقولٍ أو فِعْلٍ يُبشِّر باستثارة غضبها، ويُنذر بإشعال جمرته. أيتها العزيزة, تسألين عن كيفية بِرِّها وهي لا تعينك عليه, بل تعينك بكلِّ ما تفعل على العقوق وتوجهك نحوه؟ وأقول لك: اعلمي أن الله الذي يعلم الجَلي والخفي يُعامل كلَّ عبدٍ مِن عبيدِه بحكمة عالية, وعدل تامٍّ, وإنصاف لا مثيل له.
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أمي تُسَبِّب لي أذًى كبيرًا، لم أعدْ أحتمل أذاها، مع أنها سيدة متديِّنة، تحفَظ كتاب الله، وتدرسه وتُذاكره، ومع تديُّنِها فهي للأسف شتَّامة لعَّانة، تدعو على أولادها بالشلَل والأمراض الخبيثة والمصائب لأتْفَهِ الأسباب! تربَّيتُ على القوة والقسوة والضرب، وبالرغم مِن ذلك أحمل لها شكرًا عظيمًا لأنها كانتْ سببًا في حفظي القرآن، كانتْ تَعِدني بالمكافآت عند الحفظ، والعقوبة عند التقصير! كيف ابر امين. أصبحتُ الآن في أواخر العشرينيات مِن عمري، وتقدَّم لي الكثيرُ مِن الخُطَّاب، منهم مَن رأيتُ فيه الصلاح، ومنهم مَن لم أرَ فيه الصلاحَ والتدينَ الذي أُحِبُّ أن يكونَ موجودًا في زوجي. مِن هنا نشأتْ أكبر مشكلاتي مع أمي؛ فهي كأيِّ أمٍّ تُحبُّ أن تُزَوِّجَ ابنتها، لكن لا يهمها مَن يكون؟ وكيف هي أخلاقه؟ تقبل المدخِّنَ، وتارك الصلاة، والمتزوِّج، وغير المتعلِّم، وإذا رفضتُ تضربني وتُعنفني، وتدعو عليَّ بالليل والنهار لرفْضي هذا الخاطب! كانتْ تُسَلِّط عليَّ أبي وأخي ليضرباني، بعد أن تخبرهما عني بالشائعات والأكاذيب وأني فتاة غير صالحة، مع اتهامي في ديني وشرَفي، ثمَّ تدعو عليَّ بالمرض الخبيث والموت!
إنَّ فضْلَ الأُمِّ مقدَّم على فضل الأب في القرآن الكريم والسُّنة النبوية؛ فقد قال - تعالى -: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسن صحابتي؟ قال: ((أُمك))، قال: ثم مَن؟ قال: ((ثم أُمك))، قال: ثم مَن؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم مَن؟ قال: ((ثم أبوك))؛ مُتفق عليه. وفي هذا يقول ابن الجوزي - رحمه الله - في برِّ الوالدين: "والعاقل يعرِف حقَّ المحسن، ويجتهد في مكافأته، وجَهْل الإنسان بحقوق المنْعِم من أخسِّ صفاته، لا سيَّما إذا أضاف إلى جَحْد الحقِّ المقابلة بسوء المنقلب، وليعلم البارُّ بالوالدين أنَّه مَهْمَا بالَغَ في برِّهما لم يفِ بشُكْرهما؛ عن زرعة بن إبراهيم: أن رجلاً أتى عمر - رضي الله عنه - فقال: إن لي أُمًّا بلغ بها الكِبرُ، وأنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مَطيَّة لها، وأوضِّئها، وأصرفُ وجْهي عنها، فهل أدَّيتُ حقَّها؟ قال: لا، قال: أليس قد حملتُها على ظهري، وحبستُ نفسي عليها؟ قال: "إنَّها كانتْ تصنع ذلك بك وهي تتمنَّى بقاءَك، وأنت تتمنَّى فراقها!