لكن في المقابل، روى الرحالة ابن جبير الأندلسي أنه صادف الخليفة في أسواق بغداد بينما كان متنكراً يتفقد أحوال رعيته، وعلى عكس ما روى ابن واصل، مدح ابن جبير الناصر بقوله: " يحب الظهور للعامّة، ويؤثر التحبّب لهم، وهو ميمون النقيبة عندهم، قد استسعدوا بأيامه رخاءً وعدلاً وطيب عيش؛ فالكبير والصغير منهم داعٍ له". ناصَرَ صلاح الدين، وماتت هيبة الخلافة بموته كان الخليفة الناصر من المؤيدين لصلاح الدين الأيوبي في حروبه مع الصليبيين، وقد أمر الملوك في الأقطار الإسلامية بمعونته بجيوشهم. وعندما فُتحت القدس لصلاح الدين، أرسل له الناصر بلوح منقوش كتبت عليه الآية الكريمة: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ". يقال إنه كان مخدوماً من الجن وخطب له في الصين والأندلس الناص - الراصد العراقي. وكان التنسيق العسكري بين الناصر والأيوبي قوياً على الدوام، وقد شهد الأعيان الثقاة بأنّ صلاح الدين مات وهو على الطاعة للناصر والخلافة العباسية. لم يكن الأيوبي السلطان الوحيد الذي والى الناصر، فقد عاش ذلك الخليفة العباسي طوال 47 عاماً أطاعه فيها جميع الملوك والحكام المسلمين، وملأ القلوب هيبة وخيفة؛ فكان يرهبه أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد، فأحيا هيبة الخلافة التي ماتت بموته عام 1225.
عَرَفَتْ ملوكُ الجنِّ ريحَ عِمامتي!!
من جهة أخرى، حرص الناصر لدين الله على ألا تخفى عليه كبيرة ولا صغيرة في الدولة، وكانت تلك طريقته لحماية نفسه من المكائد. وقال عنه المؤرخ ابن واصل: " كان الناصر شهمًا، شجاعًا، ذا فكرة صائبة، وعقل رصين، ومكر ودهاء، وله أصحاب أخبار في العراق وسائر الأطراف، يطالعونه بجزئيات الأمور". وقد انتشرت أخبار معرفة الناصر لجميع أسرار الدولة وخفايا العباد؛ حتى قيل: إنه كان مخدوماً من الجن، وإنه يعلم ما في بطن الحامل، وما وراء الجدار! وقد بلغ من مكره ودهائه أنه كان يستطيع ببساطة خلق المودة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، وإيقاع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون. إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع وفي حين أجمع المؤرخون حول حزم الناصر ومكره ودهائه وقدرته على استرداد هيبة الدولة؛ إلا أنهم اختلفوا حول معاملته لرعيته. فقد قال عنه ابن واصل: إنه كان "رديء السيرة في الرعية"، على الرغم من عقله الرصين، وأردف: "كان مائلاً للظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم. وكان الناصر إذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع، وله مواطن يعطي فيها عطاء من لا يخاف الفقر". وأكد على ذلك الإمام جلال الدين السيوطي، فروى في كتابه " تاريخ الخلفاء " أن الناصر كان سيئ السيرة بين الناس، وكان يقوم بأفعال متضادة.