ورد لي سؤال حول هذا القول المأثور؟ لمن الشعر؟ وما المقصد؟ البيت هو: أغايةُ الدِّينِ أن تُحْفوا شواربكم *** يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأمم يسخر المتنبي من أهل مصر في عصره، ممن كانوا يتمسكون بالأعراض في الدين دون الجوهر. لنقرأ المعري في شرحه هذا البيت: "من عادة أهل مصر إحفاء الشوارب (أي استئصالها). يقول: اقتصرتم من الدين على ذلك، وعطلتم سائر أحكامه! ورضيتم بولاية كافور عليكم مع خسّته، حتى ضحكت الأمم منكم واستهزءوا بكم وبقلة عقلكم". جدل في مصر بعد منع صلاة التهجد. (شرح أبي العلاء لديوان المتنبي- تحقيق عبد المجيد دياب). من المألوف أن كثيرًا من المسلمين ينهجون وفق الحديث الشريف: "أَحْفوا الشوارب وأعْفوا اللحى"- صحيح مسلم (259)، وفي رواية: قصوا الشوارب… أما في صحيح البخاري (5892) فالحديث بتغيير طفيف: "خالفوا المشركين، ووفّروا اللحى وأحفوا الشوارب"! المتنبي لا يرضى أن يكون هذا الأمر الشكلي غاية في دينهم، فالدين الجوهر هو أن ترفض كل منكر، وأن تعترض ما وسعتك الحيلة على كل شائنة وشنار، فيعيّرهم بالخزي والعار، لأن عبدًا يحكمهم، فرضوا بطاعته، فأي جهل بعد هذا الجهل، فها هي الأمم الأخرى تنظر إليكم يأهل مصر، وتضحك ساخرة لهذا المصير الذي قبلتموه!!
ليس المقصود هنا النيل من كرامة مصر أو شعبها العظيم، بقدر ما ترد على بال من يتابع المشهد السياسي العربي الحالي، ذلك الشطر من قصيدة المتنبي، لكن المقصود هنا ليس شعب مصر، ولا كافور، وإنما البلاد العربية برمتها، والشعوب العربية قبل حكامها في مقدمتها. فاليوم.. لم يفقد العرب صُلب علاقاتهم بقيمهم الدينية وجوهرها، إسلامية تلك القيم أم مسيحية، أم أي دين آخر، ولم يتوقف الأمر عند قبولهم بحاكم غير عادل وخنوعهم له، ومداهنتهم لآخر غير كفء، وريائهم له، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، على المستويين الديني والسياسي. فعلى مستوى التمسك بالدين، بتنا لا نرى أي مظهر من مظاهر من يدعون تشبثهم بالدين الإسلامي الحنيف، سوى مجازر ترتكب بحق الأبرياء، من مواطنين عزل من السلاح، وسبي واغتصاب لفتيات قصر لم يرتكبوا ذنبا سوى أن ظروفهم أوقعتهم أسرى في أيد "كائنات" أبعد ما تكون عن الإنسان والإنسانية، دع عنك الأديان، وفي طليعتها الإسلام. ثم بتنا نشاهد عبر شاشات التلفاز، بشكل متكرر ممجوج، هدمهم لآثار تعكس تطور المجتمع الإنساني، وتبرز إنجازاته التي حققها في مرحلة تسبق الدعوة الإسلامية. يا امة ضحكت من جهلها الامم 1 - YouTube. وتكبر المصيبة عندما يرتكب كل ذلك تحت شعارات إسلامية جوفاء يسوق لها أناس هم أبعد ما يكونون عن الدين الإسلامي.
القصيدة ساخرة بهجائها اللاذع يبدأها: من أية الطرْق يأتي نحوَك الكرم *** أين المحاجمُ يا كافور والجَلَمُ؟ الجلم: المقراض، والمحاجم جمع مِحْجمة- وهي القارورة التي توضع على الجلد لمص الدم الفاسد. يقول مخاطبًا كافور: كيف لك بالكرم، فهو لا يعرف طريقًا إليك؟! يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. ومن أية الطرق يقصدك ولست أهلاً له؟! فأنت كنت عبدًا ساقطًا تحْلق وتحجم، فأين أدوات عملك أيها العبد الزنيم؟ ما أجدر المتنبي بدراسة مستقصية لمواضع سخريته، فشرّ البلية ما يضحك، وكان قد قال مرة أخرى عن تخاذل المصريين إزاء كافور: وماذا بمصر من المضحكات *** ولكنه ضحك كالبكا؟ ب. فاروق مواسي
حينها فقط سنرغم الآخرين طوعا على احترامنا والكف عن الضحك من جهلنا.