يتحدث أصدقائي المصريون عن مقابرهم كما لو أنهم يتحدثون عن سكن آخر لهم، كما لو أن الموت لهم هو انتقال لبيت آخر، ربما هذا ممتد من المصريين القدماء، فإن أتيح لك أن تزور مقابرهم في مدينة الأقصر، سوف ترى كم اعتنوا بها ورتبوها ولونوها وزينوا جدرانها بالرسوم وسردوا عبر الرسم حكايات كثيرة عن طريقة حياتهم قبل السكنى الجديدة وعما ينتظرهم فيها، ثمة حياة أخرى تنتظرهم في تلك البيوت الجديدة وعليهم أن يتجهزوا لها بكل ما يلزمهم، ويزخر كتاب الموتى الذي كتب على جدران المعابد والمقابر وعلى برديات تم اكتشافها في كل مكان بالحكايات عن الموت والحياة ما بعده. "تحمل المقابر أسماء مختلفة ومشهورة ويمكنك معرفة مستوى أصحابها الطبقي والمادي من شكل الرخامة على بابها ومن شكل حديد الباب ومن اتساع الحوش ومدى احتوائه على الزرع المُعتنى به" مقابر المصريين القدماء هي مرحلة مهمة للانتقال نحو الحياة الجديدة لهذا اعتنوا بها جيدًا، ومثلها مثل مقابر العصر الحديث يمكنك من حجمها ومن طريقة الرسم والألوان على جدرانها معرفة أهمية الشخص صاحب المقبرة، عامة الشعب في مصر القديمة ما زالت قبورهم مهمشة ولم تكتشف كلها حتى الآن. "الموتى يحتلون مساحات الحياة في القاهرة"- قالت لي ابنتي التي تعيش في أوروبا وتزور مصر لأول مرة في حياتها وهي مدهوشة من مساحة المقابر التي رأتها، وأردفت: "أنا سأوصي بحرق جثتي"، أصابتني قشعريرة مفاجئة وطلبت منها الصمت وعدم الحديث ثانية في هذا الأمر، ثم فكرت بعد ذلك فيما قالته.
حرق الموتى واحدة من أكثر تجليات المدنية وضوحًا، ليس فقط لأن حرق الجثث يوسع في مساحة الأرض للأحياء، بل أيضًا هو تخل عن طقس يحيل ارتباطنا بالموتى إلى قيد. بعد أن مات أبي عام 1996 ودفن في أرض مجاورة لبيتنا في القرية كانت أمي تطلب منا زيارة قبره في كل عيد وفي كل مناسبة، نادرًا ما لبيت طلبها، لا لأنني لم أكن أحب أبي كما قد تتوهمون ولا لأنني أخاف زيارة المقابر (لم أعد أخاف منها منذ زمن) بل لأن القبر مجرد أحجار تحتها توجد عظام شخص ما قيل إنه مات، بينما أبي كان حيًا دائمًا في ذاكرتي، يموت الموتى حين ننساهم، حين تنسقهم ذاكرتنا إلى الهوامش، حين لا نعود نراهم في أحلامنا، أنا ما زلت أرى أبي، ما زال حيًا حتى اللحظة وأظنه سوف يبقى حيًا حتى أختفي أنا عن الأرض.
يرقد أبي تحت شجرة سنديان ضخمة، في قريتي كل المقابر توجد تحت السنديان، والغريب أن سنديان المقابر هو الأكثر خضرة والأكبر في الحجم، كان أبي يقول إنه سوف يعود ذات يوم في نسغ السنديان، أصدق أبي وأراها فكرة تصلح للشعر، لطالما كان شاعرًا جميلًا، عن نفسي أفكر بالفراغ، الموتى ذرات في الفراغ، ذرات لا مرئية، حرة ومنطلقة يريد البشر أن يؤنسنوها فيخترعون لها أفكارًا جميلة كي يصدقوا أنهم خالدون.