فلما علمت عائشة رضي الله عنها بذلك خرجت وابتعدت عن الجيش لقضاء بعض شأنها، فلما انتهت من قضاء حاجتها، عادت إلى مكانها، ثم تبين لها أنها قد أضاعت عقدًا كان في صدرها، فرجعت تلتمسه فأخرها البحث عنه، وكان الوقت ليلاً. لا تحسبوه شرًّا لكم، بل هو خيرٌ لكم! - ناصر بن سليمان العمر - طريق الإسلام. فلما وجدته رجعت إلى حيث كانت فلم تجد أحدًا، فاضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها، فنامت. وكان صفوان بن المعطِّل قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة مؤخِّرة الجيش، فلما علم بابتعاد الجيش، وأمن عليه من غدر العدو، ركب راحلته ليلتحق بالجيش، فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش أبصر سواد إنسان، فإذا هي عائشة ، وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع ( قال: إنا لله وإن إليه راجعون) واستيقظت عائشة رضي الله عنها على صوت استرجاعه، ونزل عن ناقته وأدناها منها، فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش. وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في الجيش، فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، فصدق قوله حسان بن ثابت ، و مِسطَح بن أُثاثة ، و حمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين، وأشاع الخبر طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي. فهذه قصة الإفك باختصار، وقد ذُكرت في كتب الصحاح بشكل مفصل، وكانت هذه الحادثة السبب الذي نزل لأجله قوله تعالى: { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} وما تلاها من آيات.
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) قوله تعالى: إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم عصبة خبر إن. ويجوز نصبها على الحال ، ويكون الخبر لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم. القرآن الكريم - تفسير السعدي - تفسير سورة النور - الآية 11. وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة - رضوان الله عليها - ، وهو خبر صحيح مشهور ، أغنى اشتهاره عن ذكره ، وسيأتي مختصرا. وأخرجه البخاري تعليقا ، وحديثه أتم. قال: وقال أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، وأخرجه أيضا ، عن محمد بن كثير ، عن أخيه سليمان من حديث مسروق ، عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال: حدثني مسروق بن الأجدع ، قال: حدثتني أم رومان وهي أم عائشة ، قالت: بينا أنا قاعدة أنا ، وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار ، فقالت: فعل الله بفلان وفعل ، فقالت أم رومان: وما ذاك ؟ قالت: ابني فيمن حدث الحديث ، قالت: وما ذاك ؟ قالت: كذا وكذا.
فالذين جاؤوا بالإفك ليسوا واحدًا ولا اثنين بل جماعة، فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فإنه هو الذي لفَّق الخبر، ونشره بين الناس. حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به. ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك. إنما هو الذي تولى معظمه. وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة فتواروا وراء ستار الإسلام، ليكيدوا للإسلام خفية. وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة. ثم خدع فيها بعض المسلمين، فخاض منهم من خاض في حديث الإفك. إن أمر هذه الفتنة لم يكن أمر عائشة رضي الله عنها فحسب، ولم يكن قاصرًا على شخصها فقط. بل تجاوزها إلى الأمة بأكملها متمثلة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك لم يكن حديث الإفك رمية لـ عائشة وحدها، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها. تفسير: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم). من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة، ويرد المكيدة المدبرة، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام، وبالتالي ليكشف عن الحكمة وراء ذلك كله، التي لا يعلمها إلا الله: { لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم}. لقد كانت معركة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاضتها الأمة المسلمة يومذاك، وخاضها الإسلام.
وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. وأخرج البخاري من حديث معمر ، عن الزهري قال: قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليا كان فيمن قذف ؟ قال: قلت لا ، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما: كان علي مسلما في شأنها. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر ، عن الزهري ، وفيه: قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب ؟ فقلت: لا ، حدثني سعيد بن المسيب ، وعروة ، وعلقمة ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول: والذي تولى كبره عبد الله بن أبي. وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة: والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي. الثانية: قوله تعالى: ( بالإفك) الإفك الكذب. والعصبة ثلاثة رجال ؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة: أربعون رجلا. مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر. وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض. والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة.
إنّ هذه الآية الكريمة، تُعتبر من أعظم الأدلة على خُلُق التّفاؤل، الّذي يرسمُ منهجًا إسلاميًّا في تفسير الأحداث، وكيفيّة التّعامل معها، منهجًا يستند إلى الإيمان بالله تعالى وإلى الإيمان بالقدر. إنّ خلُق التّفاؤل، ليس من وظيفته أن يعود بالإنسان إلى الماضي، ليُبدّل مسار الأحداث الواقعة التي أَلَـمَّت به فعلًا، بلى إنه يعود إليها، ليمسح الآثار السّيّئة التي ترسّبت عنها في نفسه، ويُعيد بناءَ وعيه وتفكيره، ليُوجّهه إلى أفقٍ جديد! إذن، ففي هذا المنهج التّفاؤليّ؛ ينبغي أن نُميّز في الأحداث بين ما قد وقع فعلًا، وما لم يقع بعدُ. والقاعدة الكبرى التي يقوم عليها هذا المنهجُ، هي قاعدة التَّمييز بين القَدَر الكونيّ والقَدَر الشّرعيّ، فالقَدَر الكونيّ هو ما قدّر الله وُقوعَه، سواءٌ كان مُرادًا يُحبّه، أو مُبْغَضًا ولا يُريده، أمّا القَدَر الشّرعيُّ فهو ما يُريده الله ويُحبّه، سواءٌ كان قد وقع أو لم يقع. فحادث الإفك قَدَرٌ كونيٌّ، وليس قَدَرًا شرعيًّا، أي: أنّ الله عزّ وجلّ لا يُحبّ وُقوعه، فلماذا قدّره؟ لا شكّ أنّ الله عزّ وجلّ إنّما قدّره لحِكَمٍ جليلة، فلذا جاء تنبيهُه لعباده المؤمنين، بأنّه -أي: هذا الحَدَث المزلزلُ- في الحقيقة خيرٌ لهم!