تاريخ النشر: ٢٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٠ مرات الإستماع: 3816 حفظت من رسول الله ﷺ كان لأبي بكر الصديق غلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: ففي باب "الورع وترك الشبهات" أورد المصنف -رحمه الله-: حديث الحسن بن علي -رضى الله عنهما- قال: حفظت من رسول الله ﷺ: دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك [1] ، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. دع ما يريبك أي: اترك ما تشك فيه، إلى ما لا يريبك إلى ما لا تشك فيه، ولفظة الرَّيْب أخص من الشك، وإن كان يرجع معه إلى معنىً أو إلى أصل واحد، ولكن الفرق بين الريب والشك: أن الريب شك مقلق، الشك إذا كان فيه قلق، عدم ارتياح فهذا هو الذي يقال له: الريب، ولهذا قال الله عن كتابه: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، وقال: ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]. وهذا التعبير في غاية المناسبة دع ما يريبك.
دع ما يريبك قال أبو محمد: قال صلى الله عليه وسلم: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ) (1). دع ما يريبك إذا اجتمع مع ما لا يريبك، فخذ بالعزيمة التي لا يشوبها ريب ولا شك، ودع ما يريبك. دع ما في أيدي الخلق فلا تطلبه، ولا تعلق قلبك به، ولا ترجو الخلق ولا تخافهم، وخذ من فضل الله عز وجل، وهو ما لا يريبك. وليكن لك مسؤول واحد، ومعطٍ واحد، ومرجو واحد، ومخوف واحد، وموجود واحد، وهو ربك عز وجل، الذي نواصي الملوك بيده، وقلوب الخلق بيده، وأموال الخلق له عز وجل. [39] الأصنام كثيرة ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب. بل هو متابعتك هواك. وأن تختار مع ربك شيئاً سواه من الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها. فما سواه عز وجل غيره. فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به عز وجل غيره. فاحذر ولا تركن. وخف ولا تأمن. وفتش، فلا تغفل فتطمئن. [17] الرضا بالحال قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِۦٓ أَزْوَٰجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} [طه: 131] فهذا تأديب منه عز وجل لنبيه المختار صلى الله عليه وسلم في حفظ الحال والرضى بالعطاء.. وترك الالتفات إلى ما سواه.
فهنا نقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، ولذلك تجد من الناس من يقول: أنا قرأت فتوى في المسألة، أو سمعت في كذا، لكن في نفسي شيء من هذه المعاملة، من هذا الربح، من هذا المكسب، من هذه الصفقة، فنقول: دع هذا فإن الإثم ما حاك في الصدر، فهذا أصل كبير في الورع، ولهذا سئل بعض السلف عن الورع، السلف كانوا يقولون: أسهل شيء، فما شككت فيه فدعه، فهذا سهل، لكن كانوا يقولون: الإخلاص صعب؛ لأن القلب له حركة واختلاج، والواردات ترد عليه بكثرة، ويتقلب ويتصرف، فيصعب السيطرة على ذلك، ولهذا يقولون: الإخلاص صعب، وأما الورع فسهل، اترك الذي تشك فيه. حديث عائشة -رضى الله عنها- قالت: كان لأبي بكر الصديق غلام، غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني لذلك، هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه [1]. الغلام: المقصود به هنا مملوك. وجاء في بعض الروايات أن اسمه النعيمان، يُخرج له الخراج، الخراج هنا المراد به ما يفرضه السيد على المملوك، بحيث إنه يعتمل بيده، ويأتي لهذا السيد بمال، يقول له: اذهب، اصنع، اعمل، اشتغل، ثم يأتيه بمال، هذا المال الذي يأتي به يقال له: الخراج، هنا في هذا الحديث.
للأستاذ عمر بن عبدالله العمري الحديث الحادي عشر عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته رضي الله عنه ، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). * * * إعراب الحديث: { دع}: فعـل أمر مبني على السكون والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقدير أنت. { ما}: اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. { يريبك}: يريب فعل مضارع مرفوع بالضمة ، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو. { الكاف}: ضمير مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. والجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. { إلى}: حرف جر. { ما} اسم موصول مبني على السكون في محل جر. { لا}: نافية. { يريبك}: سبق. إعرابها ومحلها كالأولى. قال ابن دقيق العيد رحمه الله في الشرح: ( قوله: { يريبك} يروى بفتح الياء وضمها ، والفتح أفصح وأشهر). * * *
وقد روي عن عطاء الخراساني مرسلا. وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه: قيل له: فمن الورع ؟ قال: " الذي يقف عند الشبهة " [ ص: 280] وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة: منهم عمر ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وعن ابن مسعود ، قال: ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف لا تريبك ؟! وقال عمر: دعوا الربا والريبة ، يعني: ما ارتبتم فيه ، وإن لم تتحققوا أنه ربا. ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب: بمعنى القلق والاضطراب - بل تسكن إليه النفس ، ويطمئن به القلب ، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك. وقال أبو عبد الرحمن العمري الزاهد: إذا كان العبد ورعا ، ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه. وقال الفضيل: يزعم الناس أن الورع شديد ، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقال حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون من الورع ، إذا رابك شيء ، فدعه. وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله. قال ابن المبارك: كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز: إن قصب السكر أصابته آفة ، فاشتر السكر فيما قبلك ، فاشتراه من رجل ، فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا ، قال: فأتى صاحب السكر ، فقال: يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي ، فلم أعلمك ، فأقلني فيما اشتريت منك ، فقال له الآخر: قد أعلمتني الآن ، وقد طيبته لك ، قال: فرجع فلم يحتمل قلبه ، فأتاه ، فقال: يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه ، فأحب أن تسترد هذا البيع ، قال: فما زال به حتى رده عليه.
والكذب ريبة، ومعنى أن الكذب ريبة أي أنه أمر مقلق، أمر مقلق لا تستريح معه النفس، ولهذا فإن من أراد طمأنينة النفس وراحة البال فليلزم الصدق في كل أموره، أما الذي يعيشون على الكذب والغش والتدليس في تجارتهم، في أعمالهم، في معاملاتهم، في كلامهم مع الناس فإن هؤلاء يبقون في حياة ليست مستقرة، تبقى حياتهم دائماً قلقة، وهذا القلق إذا دام واستمر وطال بالإنسان فإنه لربما أورث الإنسان عللاً مستديمة من الكآبة والضيق، وهذا حال كثير من الناس اليوم مع ما هم فيه من أسباب الراحة وما حصلوه من الأموال إلا أن ذلك لم يغنِ عنهم شيئاً، والمقصود أن الإنسان يترك ما يشك في حِلّه إلى ما لا يشك فيه، ومن ثم يكون قرير العين. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 668)، رقم: (2518)، والنسائي، كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات (8/ 327)، رقم: (5711). أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات (2/ 723)، رقم: (1946)، وأخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (3/ 1219)، رقم: (1599). أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم (4/ 1980)، رقم: (2553).
فالشاهد أن عمر بن عبد العزيز جيء له بالعسل، فسأل، فأخبرته امرأته أنها طلبت ذلك بطريق البريد، وهذا البريد إنما هو لمصالح المسلمين، وليس لشيء يخصه، فمن ورعه -رحمه الله- أنه أبى ذلك وأمر أن يباع، وأن يُدفع ما كان موازياً لقيمة الكلفة -كلفة البريد مثلاً، ويُجعل في بيت مال المسلمين. وقال: ولو كان نافعاً المسلمين قيءٌ لتقيأتُ، فلم يتقيأ؛ لأن هذا أمر لا ينفع. إذا كان مثل هذه النماذج، وسيأتي إن شاء الله نماذج حينما نقرأ الآثار المنقولة عن السلف من الكتاب الآخر، إذا كانت هذه هي حالهم يتقيأ الواحد منهم من أكلة أكلها، مع أن فعله ليس بمحرم، فكيف بالإنسان وهو يعلم؟، ولربما كان مسكنه أصلاً من شبهة أو حرام، وسيارته من حرام، وأموال الناس عنده، وأخذها بطرق محرمة، وإذا اعتمل لهم عملاً فإنه لا يؤديه على الوجه المطلوب، ويأخذ من هنا، وإذا كان مندوباً للمبيعات، أو للمشتريات، أو لغير ذلك، وُكل به المناقصات أو نحو هذا يطلب لنفسه نسباً، وإلا فإنه لا يوقع هذا العقد، ويأبى وما أشبه ذلك، كل هذا من السحت، و لا يربو لحمٌ نبت من سحت إلا كانت النار أولى به [2]. والله المستعان، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.