إن الكفرة العصاة لا يستطيعون أن يتحملوا التفكير في أن هناك يوماً آخر، وأن هذه الأعمال التي تعمل في الدنيا لا بد من الجزاء والحساب عليها، وأهل الشهوات لا يستطيعون أن يتحملوا في أدمغتهم وأذهانهم شيئاً اسمه اليوم الآخر؛ ولذلك فهم يسارعون إلى نفيه ويتكبرون ويستكبرون في الاعتراف به، وبعضهم يتناساه ويتغافل عنه ولا يفكر به نهائياً؛ لأن التفكير في المصير أمر مؤلم خصوصاً بالنسبة لأولئك العصاة الذين حادوا عن منهج الله عز وجل، والله الحكيم العليم يعلم أن البشر لا تسمح حواسهم أبداً على هذه الأرض، ولا يستقيم لهم نظام، ولا تحكم أمورهم وعلاقاتهم وأعمالهم إلا باليوم الآخر الذي يكون وراء هذه الحياة الدنيا. وبدون اليوم الآخر فإن هؤلاء البشر -كما هو حادث الآن- سينطلقون في شهواتهم في كل اتجاه، ويتكالبون على المتاع المحدود -متاع الحياة الدنيا- وترى المصارعة والتصارع بين الأفراد والأنظمة، والأجناس والطبقات يغير بعضهم على بعض، وينطلق الكل في الغابة كالوحوش الكاسرة يأكل القوي الضعيف، والظالم يأكل المظلوم وهكذا، لشيء واحد وهو أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، والله عز وجل يبتلي البشر ليعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك.
الثَّاني: الإيمانُ بما سَيَكونُ في هَذا اليَومِ من أهوالٍ وحِسابٍ، ومَوازينَ وصِراطٍ، وجَنَّةٍ ونارٍ، لا بُدَّ من هَذا، الثَّالِثُ: الإيمانُ بما يَكونُ في القَبرِ من فتنةِ القَبرِ، سُؤالِ المِلكَينِ المَيِّتَ عَن ثَلاثةِ أشياءَ: مَن رَبُّكَ؟ ما دِينُكَ؟ مَن نَبِيُّكَ؟) [1280] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 221).. انظر أيضا: الفَصلُ الثَّاني: حُكمُ الإيمانِ باليَومِ الآخِرِ وأدِلَّتُه. الفَصلُ الثَّالِثُ: مَنزِلةُ الإيمانِ باليَومِ الآخِرِ. الفَصلُ الرَّابعُ: ثَمَراتُ الإيمانِ باليَومِ الآخِرِ.
وقد بين الله تعالى أنه لم يخلق الخلق هملاً، بل خلقهم لعبادته، وجعل لهم موعداً يرجعون فيه إليه ليجازيهم على أعمالهم، قال -عز وجلَّ-: ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[المؤمنون: 115-116]، والاستفهام في الآية للإنكار والتوبيخ، أي ليس الأمر كما تظنون، فتعالى الله عن أن يخلق الخلق عبثاً لا معاد ولا رجوع. وقال تعالى: ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)[النساء: 87] [النساء:87]؛ فذكر -سبحانه- في بداية هذه الآية تفرده بالإلهية؛ لإثبات هذه الحقيقة وهي جمع الناس في هذا اليوم العظيم، بل وأكد ذلك بلام القسم؛ (ليجمعنكم) ثم أكد ذلك بجملةِ (لا ريب فيه)، ثم ختم سبحانه هذه الآية مؤكداً هذه الحقيقة بقوله: (ومن أصدق من الله حديثاً) أي لا أصدقَ منه -سبحانه وتعالى-، وكل ذلك لإثبات هذا الأمر العظيم. عباد الله: ولأهمية هذا الركن العظيم؛ فقد قرن الله تعالى، ونبيُّه -عليه الصلاة والسلام- كثيراً بين الإيمانِ بالله والإيمانِ باليوم الآخر، ومن ذلك قوله تعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء: 59]، وقوله تعالى: ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[المجادلة: 22]، وقوله تعالى: ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)[الطلاق:2].
١٠ - الوليد بن يزيد بن عبدالملك (١٢٥ - ١٢٦هـ): هو أول حفيد من أحفاد «عبدالملك بن مروان» يتولى الخلافة، طبقًا لنظام الوراثة الذى سار عليه الأمويون، إذ عَهِدَ «يزيد بن عبدالملك» إلى ابنه بالخلافة بعد أخيه «هشام بن عبدالملك». وتُعد خلافة «الوليد بن يزيد» بداية النهاية للدولة الأموية، وطليعة سقوطها؛ لأنه كان على شاكلة أبيه لهوًا ولعبًا، وإذا كان أبوه قد رزق من يعوض نقص كفاءته فى الحفاظ على سلامة الدولة، من إخوته وأبناء عمومته، فإن «الوليد» لم يجد مثل هذا النوع من أفذاذ الرجال، بل ثار عليه أبناء عمومته من أبناء «الوليد بن عبدالملك» وأخيه «هشام» ، وشهد عصره أول انقسام داخلى بين الأسرة الأموية وأشده خطرًا. وقد حاول «الوليد» استرضاء الجند بزيادة رواتبهم، واستمالة الناس بزيادة أعطياتهم من الأموال الكثيرة التى تركها له عمه «هشام بن عبدالملك» فى خزانة الدولة، لكن ذلك لم يمنع الثائرين عليه من أبناء عمومته بزعامة «يزيد بن الوليد» من تلطيخ سمعته واتهامه بالفسق والفجور، والمبالغة فى تلك التهم والتشهير به؛ لأن «ابن الأثير» يقول: «إن الوليد لم يكن على هذه الدرجة من السوء، غير أن خصومه نجحوا فى خطتهم، وقتلوه فى جمادى الآخرة سنة (١٢٦هـ) ، فاتحين بذلك أبواب الشر على الدولة من كل جانب، مفجِّرين الثورات والفتن فى كل مكان».
ففي عهد الوليد بن عبد الملك تم إعادة بناء مسجد الرسول r وتوسعته من جميع النواحي وإدخال حجرات أزواج النبي r فيه، ولم يبخل في سبيل ذلك بمال، ليكون المسجد في أعظم وأبهى صورة، وعهد بهذه المهمة إلى ابن عمه وواليه على المدينة عمر بن عبد العزيز ، فأوكل عمر مهمة الإشراف على بناء المسجد إلى صالح بن كيسان، وبعث إليه الوليد بالأموال والرخام والفسيفساء وثمانين صانعًا من الروم والقبط من أهل الشام ومصر. أما مسجد دمشق فقد جعله الوليد آية من آيات العمارة الإسلامية، وبالغ في تزيينه وأبهته ليكون مظهرًا من مظاهر عظمة الإسلام، وأنفق عليه أموالاً طائلة حتى إن الناس انتقدوه على كثرة النفقات على بناء المسجد، فقال لهم: يا أهل الشام، لكم أربعة أشياء تفخرون بها، فأردت أن أجعل لكم خامسًا. وقد استغرق بناء مسجد دمشق كل عهد الوليد وأتم بناءه أخوه سليمان بن عبد الملك من بعده. وكما كان الوليد مهتمًّا ببناء المساجد فقد اعتنى بتعبيد الطرق، وبخاصة تلك التي تؤدي إلى الحجاز لتيسير السفر على الحجاج إلى بيت الله الحرام، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار، وعمل الفوارة في المدينة، وأمر لها بقُوَّام يقومون عليه، وأن يُسقَى منها أهل المسجد.
[١] الوليد بن عبد الملك هو أبو العباس، الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، ولد في المدينة المنورة، أمه هي وليدة بنت العباس بن حزن الحارثية العبسية، تولى الخلافة سنة 86هـ 715م بعهدٍ من أبيه عبد الملك على أن يكون وليّ عهده أخوه سليمان بن عبد الملك، وأراد في خلافته خلع أخيه من ولاية العهد وردها إلى ولده عبد العزيز، فمات قبل أن يفعل، وقد شهدت الدولة الأموية في زمانه ازدهارًا عظيمًا واتساعًا كبيرًا، فبلغت الأندلس غربًا وأطراف الصين شرقًا. [٢] غزا الوليد بلاد الروم عدّة مرّات في حكم أبيه، ثم حكم الوليد بن عبد الملك قرابة عشر سنوات عرف خلالها بقدرته على القيام بأمر الخلافة وحرصه على توجيه القادة في جميع الاتجاهات، وقد عرف على مستوى حياته أنه يلحن في اللغة؛ ولكنه كان يكثر من ختم القرآن، ويرعى الحفظة وطلاب العلم، ويفرض لهم العطايا، وتعهد الأيتام وفرض لهم الأرزاق، وخصص للمكفوفين والمقعدين خدّامًا يقومون على أمورهم، ورتب لهم الرواتب المنتظمة. [٣] توفي الوليد بن عبد الملك في سنة 96هـ في دمشق ، ودفن فيها، وقد أنزله في القرب ابن عمه عمر بن عبد العزيز؛ لأن أخاه سليمان كان في القدس، ثم استدعي سليمان لتولي أمر الخلافة، وكان للوليد من الولد 19 من الذكور تولى بعضهم الخلافة في زمن الضعف، وهم يزيد بن الوليد وإبراهيم بن الوليد، ولم يدم حكم كل واحد منها إلا بضعة شهور فقط.
[ ص: 372] قال الضحاك بن عثمان الحزامي: أراد هشام خلع الوليد ، فقال الوليد: كفرت يدا من منعم لو شكرتها جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني أراك على الباقين تجني ضغينة فيا ويحهم إن مت من شر ما تجني كأني بهم يوما وأكثر قيلهم ألا ليت أنا حين يا ليت لا تغني قال حماد الراوية: كنت عند الوليد بن يزيد ، فقال منجمان له: نظرنا فوجدناك تملك سبع سنين ، فقلت: كذبا ، نحن أعلم بالآثار ، بل تملك أربعين سنة ، فأطرق ثم قال: لا ما قالا يكسرني ، ولا ما قلت يغرني ، والله لأجبين المال من حله جباية من يعيش الأبد ، ولأصرفنه في حقه صرف من يموت الغد. وعن العتبي: أن الوليد رأى نصرانية اسمها سفرى ، فجن بها ، وراسلها فأبت. قال المعافى: جمعت من أخبار الوليد وشعره الذي ضمنه ما فجر به من خرقه وسخفه وحمقه ، وما صرح به من الإلحاد في القرآن والكفر بالله. أحمد بن زهير: حدثنا سليمان بن أبي شيخ ، حدثنا صالح بن سليمان ، قال: أراد الوليد بن يزيد الحج ، وقال: أشرب فوق الكعبة ، فهم قوم بقتله ، فحذره خالد القسري ، فقال: ممن ؟ فامتنع أن يعرفه ، قال: لأبعثن بك إلى يوسف بن عمر. قال: وإن ، فبعث به إليه فعذبه ، وأهلكه.
-انظر كتاب الاستاذ الدكتور: عبد الشافي محمد عبد اللطيف. -دراسات في تاريخ الدولة الاموية.