والمعنى أنه الحمد لله. قال محمد بن يزيد: ويجوز " أن الحمد لله " يعملها خفيفة عملها ثقيلة; والرفع أقيس. قال النحاس: وحكى أبو حاتم أن بلال بن أبي بردة قرأ " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". قلت: وهي قراءة ابن محيصن ، حكاها الغزنوي لأنه يحكي عنه. [ ص: 229] الثانية: التسبيح والحمد والتهليل قد يسمى دعاء; روى مسلم والبخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم. لا إله إلا الله رب العرش العظيم. لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم. قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب. وقال ابن عيينة وقد سئل عن هذا فقال: أما علمت أن الله تعالى يقول " إذا شغل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ". والذي يقطع النزاع وأن هذا يسمى دعاء وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء وإنما هو تعظيم لله تعالى وثناء عليه ما رواه النسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له.
ولذلك كان اللفظ الشائع هو لفظ ( السلام) الذي هو الأمان ، فكان من المناسب التصريح بأن الأمان على المخاطب تحقيقا لمعنى تسكين روعه ، وذلك شأن قديم أن الذي يضمر شرا لملاقيه لا يفاتحه بالسلام ، ولذلك جعل السلام شعار المسلمين عند اللقاء تعميما للأمن بين الأمة الذي هو من آثار الأخوة الإسلامية. وكذلك شأن القرى في الحضارة القديمة فإن الطارق إذا كان طارق شر أو حرب يمتنع عن قبول القرى ، كما حكى الله - تعالى - عن إبراهيم فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة وفيه تنويه بشأن هذا اللفظ الذي هو شعار المسلمين عند ملاقاتهم لما فيه من المعاني الجامعة للإكرام ، إذ هو دعاء بالسلامة من كل ما يكدر ، فهو أبلغ من أحياك الله لأنه دعاء بالحياة وقد لا تكون طيبة ، والسلام يجمع الحياة والصفاء من الأكدار العارضة فيها. وإضافة التحية إلى ضمير ( هم) معناها التحية التي تصدر منهم ، أي من بعضهم لبعض. ووجه ذكر تحيتهم في هذه الآية الإشارة إلى أنهم في أنس وحبور ، وذلك من أعظم لذات النفس. وجملة ( وآخر دعواهم) بقية الجمل الحالية. وجعل حمد الله من دعائهم كما اقتضته ( أن) التفسيرية المفسرة به " آخر دعواهم " لأن في " دعواهم " معنى القول إذ جعل آخر أقوال.
[٨] سبب نزول سورة التوبة ومناسبتها لما قبلها نزلت سورة التوبة في السنة التاسعة من الهجرة، في شهر ذي الحجة أو ذي القِعدة، بعد غزوة تبوك وقبل لحوق رسول الله بالرّفيق الأعلى، وعلى وجه التفصيل؛ أرسل رسول الله أبا بكر ليحجّ بالنّاس في ذي القعدة، فنزلت السورة ونقضت العهود مع جميع المشركين الذين بدؤوا بنقض عهودهم مع المسلمين، فأرسل رسول الله علياً؛ ليقوم بتبليغ السورة للناس في يوم الحجِّ الأكبر، ففعل كما أمره رسول الله ثم قال: "لا يحجّ بعد العام مُشرك، ولا يطوف بالبيت عريان". [٩] وترتبط سورة التوبة مع سورة الأنفال الواقعة قبلها وكأنها تتمّة لها، حيث جاءت لتُكمّل ما جاء في سورة الأنفال من الأحكام والسياسات والقواعد داخل الدولة الإسلامية وخارجها، ومع المسلمين وغيرهم، وأحوال كل منهم، وسورة الأنفال فيها الحثّ على الالتزام بالمواثيق، وفي سورة التوبة ذمّ نقضها، وتشترك السورتان في إبعاد المشركين عن المسجد الحرام ، والحثّ على الإنفاق في سبيل الله -تعالى-، كما جاء البيان والتوضيح في السورتين عن صفات المنافقين وأحوالهم.
[٩] ومن مقاصد سورة الأنفال أيضًا أنَّ آيات هذه السورة الكريمة وجّهتِ الأمر للمؤمنين بطاعة الله ورسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [١٠] ، ثمَّ رجعت الآيات لتتناول غرض الآية الرئيس وهو الحديث عن الغنائم، حث ذكرت الآيات اللاحقة كيفية تقسيم الغنائم بالتفصيل، وسردتْ أيضًا الأحداث الهامة في غزوة بدر وحثَّت المسلمين على ضرورة الإنفاق في سبيل الله تعالى. [٩] وقد ربطتْ آيات السورة بين الحرب والسلم، فأمرت بالقتال وإعداد العدة، وأمرت أيضًا بالسلم إذا ضمن عزَّة وكرمة المسلمين، فالحرب هي السبيل إذا كان في السلم ذل وهوان، ثمَّ سلطتِ الآيات الضوء على حكم الأسرى في الإسلام، واختتمت بدعوة المسلمين إلى ولاية بعضهم بعضًا بالأخوة التي بينهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [١١] ، والله تعالى أعلم.
حول سورة الأنفال [3]: (وهي مدنية) [4]: يمكن التعريف بالسورة الكريمة من خلال إلقاء الضوء على الأمور التالية: • أسماء السورة: • معنى الأنفال. • سبب النزول. • ترتيب النزول وترتيب المصحف. • مناسبة السورة لسورة البقرة والأعراف والتوبة. • النداءات. • السؤال والجواب (يسألونك). • موضوعات السورة. أطلق عليها البعض سورة القتال؛ لأنها تتحدث عن أول قتال في الإسلام، وأطلق عليها سورة الفرقان؛ لتسمية الله تعالى لها في السورة: ﴿ يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ﴾ [الأنفال: 41]، أو سورة بدر؛ كما صح عن ابن عباس، ولأنها نزلت في أعقاب غزوة بدر لتصفَ أحداثها [5]. • معنى الأنفال: لغة: "نفل": أصاب الغازي نَفَلاً وأَنفََالاً، ونفَّلَه الإمام، وأَنْفَلَهُ، والإمام يُنَفِّل الجند، وتنفَّل المصلي: تطوَّع، تنفَّل على أصحابه: أخذ من النَّفَلِ أكثر مما أخذوا؛ قاله الإمام الزمخشري [6]. والقرطبي - رحمه الله تعالى - يقول: الأنفال واحدها: نَفَلٌ بتحريك الفاء.