وروى مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد، فقد كذب، ثم قرأت { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. وقوله تعالى: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} قال قتادة: أشياء استأثر الله بهن فلن يطلع عليهن ملكاً مقرباً ولا نبيا مرسلاً { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو في أي شهر أو ليل أو نهار، { وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً، { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود وما هو. { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} أخير أم شر، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت لعلك الميت غداً لعلك المصاب غداً، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل. وما تدري نفس ماذا تك. وقد جاء في الحديث: « إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة » [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير]
فالذي لا يعلم المكان لا يعلم الزمان من باب أولى. ولقد جرت مسألتان إحداهما أدركتها أنا، والثانية حدثت بها من ثقة.
{ { وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}} أي: هو المنفرد بإنزاله، وعلم وقت نزوله. وما تدري نفس ماذا تکسب غدا اعراب - بصمة ذكاء. { { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}} فهو الذي أنشأ ما فيها، وعلم ما هو، هل هو ذكر أم أنثى، ولهذا يسأل الملك الموكل بالأرحام ربه: هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي اللّه ما يشاء. { { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}} من كسب دينها ودنياها، { { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}} بل اللّه تعالى، هو المختص بعلم ذلك جميعه. ولما خصص هذه الأشياء، عمم علمه بجميع الأشياء فقال: { { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}} محيط بالظواهر والبواطن، والخفايا والخبايا، والسرائر، ومن حكمته التامة، أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد، لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبر ذلك. #أبو_الهيثم #مع_القرآن 6 9 55, 148
ثم منعهم سبحانه وتعالى علم ما سوى ذلك -أي علم ما سوى ما ينفعهم- مما ليس في شأنهم ولا فيه مصلحة لهم ولا نشأتهم قابلة له، كعلم الغيب وعلمِ ما كان وكلّ ما يكون، والعلم بعدد القطر وأمواج البحر وذرات الرمال ومساقط الأوراق وعدد الكواكب ومقادِيرها. وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لجج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناس في صدورهم، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى سائر ما عزب عنهم علمه، فمن تكلف معرفة ذلك فقد ظلم نفسه وبخس من التوفيق حظه، ولم يحصل إلا على الجهل المركب والخيال الفاسد في أكثر أمره". وما تدري نفس بأي أرض تموت. وقد أثار المشككون الشغب حول تفسير علم ما في الأرحام بعمومه على أنه أحد الغيوب الخمس التي لا يعلمها إلا الله، وقالوا لقد بات العلماء يعرفون ما في الأرحام من ذكورة الجنين أو أنوثته، والتشوهات الخلقية فيه، وهو في بطن أمه بأجهزة التصوير والتحاليل الدقيقة! وأصبح في مقدور العلماء إنزال المطر من السحب، بواسطة بعض التقنيات العلمية! فأثاروا البلبلة في أذهان الكثيرين من العوام، وعند غير الراسخين في العلم بهذا الموضوع!
فذكر اختصاص الله بعلم قيام الساعة، والتي تمثل بداية حياة الإنسان في الدار الآخرة ، وبدأ بها لأهميتها، وذكر اختصاص الله بعلم نزول الغيث، وهو سبب رزق الإنسان وحياته على الأرض، وذكر اختصاص الله بعلم ما اشتملت أرحام النساء من ذكور وإناث ومعرفة أحوالهم سعادة وشقاءً، وذكر اختصاص الله بعلم ما يكتسبه الإنسان في غده، واختصاصه بعلم مكان موته. فهذه الأمور الخمسة ،هي مفاتيح الغيب فيما يتعلق بحياة الإنسان ،منذ كان جنينا ، إلى أن يتوفاه الله ويبعثه. وقد عُبِرَ عن هذه الخمس بالمفاتيح ،من باب التشبيه ،حيث شُبِّهت الأمور المغيّبة عن الناس بالمتاع النفيس، الذي يُدّخر بالمخازن والخزائن المستوثق عليها بأقفال، بحيث لا يعلم ما فيها إلاّ الذي بيده مفاتيحها.