يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) قوله تعالى: يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا فيه أربع مسائل: الأولى: قوله تعالى: يرثني قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة ( يرثني ويرث) بالرفع فيهما. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى بن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما ، وليس هما جواب ( هب) على مذهب سيبويه ، إنما تقديره إن تهبه يرثني ويرث ؛ والأول أصوب في المعنى لأنه طلب وارثا موصوفا ؛ أي هب لي من لدنك الولي الذي هذه حاله وصفته ؛ لأن الأولياء منهم من لا يرث ؛ فقال: هب لي الذي يكون وارثي ؛ قاله أبو عبيد ؛ ورد قراءة الجزم ؛ قال: لأن معناه إن وهبت ورث ، وكيف يخبر الله - عز وجل - بهذا وهو أعلم به منه ؟! النحاس: وهذه حجة متقصاة ؛ لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة ؛ تقول: أطع الله يدخلك الجنة ؛ أي إن تطعه يدخلك الجنة. واجعله ربي رضيا- التعريف - YouTube. الثانية: قال النحاس: فأما معنى يرثني ويرث من آل يعقوب فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة ؛ قيل: هي وراثة نبوة. وقيل: وراثة حكمة. وقيل: هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة فمحال ؛ لأن النبوة لا تورث ، ولو كانت تورث لقال قائل: الناس ينتسبون إلى نوح - عليه السلام - وهو نبي مرسل.
ووراثة العلم والحكمة مذهب حسن ؛ وفي الحديث العلماء ورثة الأنبياء. وأما وراثة المال فلا يمتنع ، وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا نورث ، ما تركنا صدقة فهذا لا حجة فيه ؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجمع. وقد يؤول هذا بمعنى: لا نورث ، الذي تركناه صدقة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلف شيئا يورث عنه ؛ وإنما كان الذي أباحه الله - عز وجل - إياه في حياته بقوله تبارك اسمه: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول لأن معنى لله لسبيل الله ، ومن سبيل الله ما يكون في مصلحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما دام حيا ؛ فإن قيل: ففي بعض الروايات إنا معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة ففيه التأويلان جميعا ؛ أن يكون ( ما) بمعنى الذي. والآخر لا يورث من كانت هذه حاله. وقال أبو عمر: واختلف العلماء في تأويل قوله - عليه السلام -: لا نورث ما تركنا صدقة على قولين: أحدهما: وهو الأكثر وعليه الجمهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث وما ترك صدقة. والآخر: أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - لم يورث ؛ لأن الله تعالى خصه بأن جعل ماله كله صدقة زيادة في فضيلته ، كما خص في النكاح بأشياء أباحها له وحرمها على غيره ؛ وهذا القول قاله بعض أهل البصرة منهم ابن علية ، وسائر علماء المسلمين على القول الأول.
لمَّا أن أدركَ سيدُنا زكريا ألاَّ أملَ هنالك في أن يكونَ له ابنٌ، بعد أن طالَ به وبزوجِه العُمُرُ وهي عاقرٌ، توجَّهَ إلى اللهِ تعالى بأن يمُنَّ عليه "من لدنه" بمَن يرِثُه في القيامِ بخدمةِ بيتِ المَقدس وزوَّارِه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ِآلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (4- 6 مريم). فما الذي جعلَ سيدَنا زكريا يسألُ اللهَ تعالى أن يكونَ هذا الذي سيمُنُّ عليه ليرِثُه به من بعدِه "رَضيا"؟ يُعينُ على الإجابةِ على هذا السؤال أن نستذكرَ قولَ اللهِ تعالى ممتدحاً سيدَنا يحيى: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا) (من 14 مريم)، وقولَه تعالى في حقِّ سيدِنا عيسى (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (من 32 مريم). فالقائمُ على خدمةِ بيتِ المقدسِ وزوَّارِه لا ينبغي له أن يكونَ "جباراً شقياً" فيُسيءَ إلى الناسِ بقولٍ أو فعل. والقائمُ على خدمةِ الناسِ لابد وأن يكونَ "رَضياً" فيرتضيَ كلَّ ما يصدرُ عنهم من قولٍ أو فعل، ومن دونِ أن يضطرَّه الانتصارُ لنفسِه إلى ما يُسيءُ إلى تراثِ سيدِنا زكريا وآلِ يعقوب الذين قاموا على خدمةِ بيتِ المقدسِ وزوَّارِه على مدى قرونٍ عدة.