فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا"الشيخ/د. فهد فريج الجنفاوي 2022 - YouTube
[تفسير قوله تعالى: (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا)] قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] أي: هؤلاء كفروا بالله عز وجل وهم يعلمون أنه الرب. والكافر يعرف أن الرب هو الذي يخلق ويرزق، ولكن لا يتوجه له بالعبادة بل يشرك به غيره سبحانه تبارك وتعالى. قال تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ:19] ، وهذه قراءة الجمهور. وقرأها يعقوب: (فقالوا ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا) ، على صيغة الإخبار، أي: أن ربنا قد باعد بين أسفارنا. وقرأها ابن كثير وأبو عمرو وهشام: (ربَّنا بعِّد بين أسفارنا). وكل قراءة يقصد بها معنى. ولكن مجمل الكلام ومضمونه أنهم ملوا من الراحة وتعبوا منها، وبطروا، فاستحقوا الشقاء، مثل بني إسرائيل عندما لم يعجبهم المن والسلوى ضرب الله عز وجل عليهم التيه، يتيهون في الأرض أربعين سنة، ولا يصلون إلى بيت المقدس. فكانوا يقطعون الطريق في متاهة ولا يعرفون كيف يصلون إلى بيت المقدس، فلما جاعوا سألوا ربهم الطعام وهم في العقوبة، فأنزل الله عليهم الطعام المن والسلوى، وهما عسل من الشجر وطائر السمانى، يأكلون ما شاءوا ولا يدخرون شيئاً، ثم اشتاقوا إلى البقل، فقالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61] أي: كل الوقت ونحن نأكل عسلاً ولحماً، فنريد أن نأكل ثوماً وبصلاً وجرجيراً وبقلاً من الأرض.
فإذا كان هو الصواب من القراءة، فتأويل الكلام: فقالوا: يا ربنا باعدْ بين أسفارنا؛ فاجعل بيننا وبين الشأم فلوات ومفاوز، لنركب فيها الرواحل، ونتزود معنا فيها الأزواد، وهذا من الدلالة على بطر القوم نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم، وجهلهم بمقدار العافية، ولقد عجل لهم ربهم الإجابة، كما عجل للقائلين إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أعطاهم ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من المسألة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني أَبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال ثنا عَبْثَر، قال ثنا حصين عن أَبي مالك في هذه الآية ( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) قال: كانت لهم قرى متصلة باليمن، كان بعضها ينظر إلى بعض، فبطروا ذلك، وقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، قال: فأرسل الله عليهم سيل العرم، وجعل طعامهم أثلا وخمطًا وشيئًا من سدر قليل. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أَبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله ( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) قال: فإنهم بطروا عيشهم، وقالوا: لو كان جَنَى جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه، فمُزِّقوا بين الشأم وسبأ، وبدلوا بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط، وأثل وشيء من سدر قليل.
الشيخ بسام جرار" فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا - YouTube
وقال في حق هؤلاء: ( وظلموا أنفسهم) أي: بكفرهم ، ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) أي: جعلناهم حديثا للناس ، وسمرا يتحدثون به من خبرهم ، وكيف مكر الله بهم ، وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا; ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: " تفرقوا أيدي سبأ " " وأيادي سبأ " و " تفرقوا شذر مذر ". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، سمعت أبي يقول: سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ ، قال: ( لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان [ عن يمين وشمال]) إلى قوله: ( فأرسلنا عليهم سيل العرم) وكانت فيهم كهنة ، وكانت الشياطين يسترقون السمع ، فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء ، فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال ، وإنه خبر أن زوال أمرهم قد دنا ، وأن العذاب قد أظلهم. فلم يدر كيف يصنع; لأنه كان له مال كثير من عقار ، فقال لرجل من بنيه - وهو أعزهم أخوالا -: إذا كان غدا وأمرتك بأمر فلا تفعل ، فإذا انتهرتك فانتهرني ، فإذا تناولتك فالطمني. فقال: يا أبت ، لا تفعل ، إن هذا أمر عظيم ، وأمر شديد ، قال: يا بني ، قد حدث أمر لا بد منه.
قال: فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان: هذا مكان صالح ، لا نبغي به بدلا. فأقاموا به ، فسموا لذلك خزاعة ، لأنهم انخزعوا من أصحابهم ، واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة ، وتوجه أهل عمان إلى عمان ، وتوجهت غسان إلى بصرى. هذا أثر غريب عجيب ، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم. وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن ، بسبب استشعاره بإرسال العرم فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن - فيما حدثني أبو زيد الأنصاري -: أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب ، الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم. فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك ، فاعتزم على النقلة عن اليمن فكاد قومه ، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه ، ففعل ابنه ما أمره به ، فقالعمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي. وعرض أمواله ، فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو. فاشتروا منه أمواله ، وانتقل هو في ولده وولد ولده. وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر. فباعوا أموالهم ، وخرجوا معه فساروا حتى نزلوا بلاد " عك " مجتازين يرتادون البلدان ، فحاربتهم عك ، وكانت حربهم سجالا.
قال: فقال: هل أشمَّك من تربته ؟! قال: قلت: نعم. فمد يده ، فقبض قبضة من تراب ، فأعطانيها ، فلم أملك عيني أن فاضتا 1. وقد بكى النبي « صلى الله عليه وآله » على حمزة ، وقال: أما حمزة فلا بواكي له 2. وبعد ذلك بكى على جعفر ، وقال: على مثل جعفر فلتبك البواكي 3. وبكى على ولده إبراهيم ، وقال: تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب. وبكى كذلك على عثمان بن مظعون ، وسعد بن معاذ ، وزيد بن حارثة ، وبكى الصحابة ، وبكى جابر على أبيه ، وبشير بن عفراء على أبيه أيضاً ، إلى غير ذلك مما هو كثير في الحديث و التأريخ 4. فكل ذلك فضلاً عن أنه يدلُّ على عدم المنع من البكاء ، فإنه يدلُّ على مطلوبية البكاء ، وعلى رغبته « صلى الله عليه وآله » في صدوره منهم. ولكننا نجد في المقابل: أن عمر بن الخطاب يمنع من البكاء على الميت ويضرب عليه؛ ويفعل ما شاءت له قريحته في سبيل المنع عنه ، رغم نهي النبي « صلى الله عليه وآله » عن ذلك ، أي عن ضرب الباكين. لم يهنأوا بطعام ومنام.. مظاهر العزاء لآل البيت في العصر الأموي | الائمة الاثنا عشر. ثم هو ينفرد برواية حديث عن النبي « صلى الله عليه وآله » مفاده: أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه 5. علماً بأنه لما بلغ عائشة نسبة هذا الكلام إلى رسول الله « صلى الله عليه وآله » من عمر قالت: « لا والله ما قاله (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد » 6.
4. راجع: النص والإجتهاد ص 230 ـ 234 والغدير ج 6 ص 159 ـ 167 ودلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 134 و 136 عن عشرات المصادر الموثوقة ، والإستيعاب (بهامش الاصابة) ترجمة جعفر ج 1 ص 211 ومنحة المعبود ج 1 ص 159 وكشف الأستار ج 1 ص 381 و 383 و 382 والإصابة ج 2 ص 464 والمجروحون ج 2 ص92 والسيرة الحلبية ج 2 ص 89 وراجع ص 251 ووفاء الوفاء ج 3 ص 894 و 895 وراجع ص 932 و 933 وحياة الصحابة ج 1 ص 571 والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 396 وج 2 ص 313. 5. راجع المصادر المتقدمة ، والغدير وغيره عن عشرات المصادر الموثوقة ، وكذا منحة المعبود ج 1 ص 158 وذكر أخبار أصبهان ج 1 ص 61 عن أبي موسى ، والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 ص 209 و 346 و 362. ادب الطف | الصفحة 2. وراجع: تأويل مختلف الحديث ص 245. 6. صحيح مسلم (ط دار الفكر) ج 3 ص 43 و (ط أخرى) ج 3 ص232 و 233 ومسند أحمد ج 1 ص 41 و 42 والمستدرك للحاكم ج 1 ص 381 وعمدة القاري ج 8 ص 77 و 78 ومسند ابن راهويه ج 3 ص 663 والجامع لأحكام القرآن ج 17 ص 116 وعلل الدارقطني ج 2 ص 80. 7. صحيح مسلم (ط دار الفكر) ج 3 ص 43 و (ط أخرى) ج 3 ص 233 ومسند أبي داود ص 210 والمصنف للصنعاني ج 3 ص 555 وتلخيص الحبير ج 5 ص 272 وراجع: كشف الخفاء ج 1 ص 258.