يمكن لرحّالة كابن بطوطة أن يصور المدينة عمارتها، وسكانها، وأهوالها، وعجائبها، في ذلك العبور الخاطف للغريب الذي يحكي المشاهد لا يوثقها. وفي مقابل ذلك، فإن أخذ التاريخ من أفواه الأدباء والشعراء قد ظل مثار جدل دائم، فالأدب لا يؤرخ العصر، بل يبني زمنه الخاص، والشعر على وجه الخصوص "لا يسعه أن يتفق مع الواقع" كما يقول شيلر. تشرع قراءة سورتي الفلق والناس في مواضع هي. إلا أن شاعراً، وهو يطلق على نفسه صفة "الشاعر المؤرخ" [1] ، قد كتب التاريخ، والمدن، والإسكندرية، بشعرية لا تعبأ بتقديم الأدلة، بل بزعزعتها، وكما يسرد ابن بطوطة رحلاته حول العالم، أو يكتب فورستر دليلاً للإسكندرية، فإن ملاحقة الشواهد التاريخية في شعر كفافيس تعد محاولة، مهما بدت عسيرة، إلا أنها تمسك برابط مختلف بين المقيم والمدينة. فقسطنطين كفافيس المولود لأسرة أرستقراطية سكنت شارع شريف باشا بالإسكندرية، سيغادر البيت الأول بعد وفاة والده، ليقضي سنوات طفولته في لندن، ثم يرحل مرة أخرى إلى القسطنطينية، هرباً من قصف المدفعية البريطانية على المدينة؛ ليعود إليها وقد تبدلت أحوالها، وتردت أوضاعها الاقتصادية بعد سلسلة من الاضطرابات التي عاشتها. لقد فقدت الإسكندرية بهاءها بعد قصف المحتل الإنجليزي لها عام 1882، كما يقول العقاد [2] ، لتبقى بعدها تلك الحاضرة مجرد أطلال.
[4] إيثاكا: جزيرة يونانية هي موطن أوليس حسب الأسطورة، والجملة هنا إحالة إلى ما ورد في قصيدة "إيثاكا" لكفافيس [5] كفافي، قصيدة الجدار، ترجمة: سعدي يوسف، وداعاً للإسكندرية التي تفتقدها، دار التكوين، دمشق. [6] كفافي، قصيدة المدينة، ترجمة: سعدي يوسف، وداعاً للإسكندرية التي تفتقدها، دار التكوين، دمشق. كفافيس.. المقيم الأبدي في المدينة – مجلة الفلق الإلكترونية. [7] جراتيان لوبير، مدينة الإسكندرية، ترجمة: زهير الشايب، موسوعة وصف مصر. ربما تود قراءة الآتي عن الكاتب
مازال يمكنني استذكار وجوه النساء الحاضرات للتعزية. سمعت حينها كلمات كثيرة. كانت إحدى أخواتي تبكي، والأخرى تتحدث مع إحدى الجارات عن امتناع أخي بأن يأتي بجنازة أبي للمنزل، وجارة أخرى تتحدث مع أختها بصوت خافت تملؤه الحسرة متجاهلة وجودي، متمنية لو أن جدتها لم تمنح أبي هذه الأرض، وبقيت لهم، وأخرى تتحدث عمن سيجلب غداء الفاتحة، وأخريات يتحدثن عن أحوال أبنائهن، ويتبادلن النكت، وقلائل منهن يقرأن القرآن. لم أسمع أحدًا يطمئن أمي بالقدر الذي كانت تحتاج إليه. أمي البعيدة عن أهلها مسافة محيط بأكمله، كانوا جميعهم يحضنونها ويوصونها بالصبر لا أكثر، ولم يُفهمني أحد ما يجري إلا الجدة الشيخة. حضنتني، ومسحت على رأسي وأخبرتني بأني من الآن فصاعدًا أصبحت يتيمة، وواصلت: "لكننا معك". مثل الفتى في الفيلم حرمت من أن أودع جثمان أبي، هذا ما أراده ابنه البكر. نور روح اللّه: أركان الاستعاذة(1). لا أعلم ما الذي كان يهدف له بعناده، ولكن إن كان يريد مسح تفاصيل وجه أبي من ذاكرتي فقد نجح، لا أتذكر وجهه، صورته ضبابية في مخيلتي، كل ما أذكره عنه هو ذاك الجسد المشلول الذي كانت تنظفه أمي رغم ثقله، وصرخات ألمها اليومية، ورائحة المستشفى. كلما يأتي ذكره أتذكّر وصف رضوى في "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، وهي تقدم تحليلًا لرواية "رجال في الشمس" واصفةً مدى المشقة التي واجهها الفلسطينيون أثناء لجوئهم حيث وصل بهم الأمر إلى الهلاك ما بين الحدود العراقية والكويتية في خزان ماء على ظهر سيارة، الخزان الذي كان أشبه بفرنٍ مشتعل، أستحضر ذكريات مشي أمي من منزلنا إلى المستشفى المرجعي في الغرب لزيارة أبي المقيم في المستشفى لرعايته، بيتنا الذي كان يبعد عن المستشفى ما يقارب النصف ساعة، بيتنا الذي كان أشبه بالقفص الصغير، المنزل الذي تقاتل إخوتي من أجل بيعه فور انتهاء العزاء كالجرذان دون أن يكترثوا لحالنا (أنا وأمي).
فيُعلم من الآية الشريفة أنّ هذَين النوعَين؛ يعني الجنّ والإنس، أيضاً هما من التمثّلات الشيطانيّة، ومن مظاهر الشيطان. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في آية أخرى، حيث يقول: ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾ (الأنعام: 112). تشرع قراءة سورتي الفلق والناس بعد النوم. 1- سوى الحقّ إنّ الإنسان قبل شروعه في السلوك إلى الله ليس مستعيذاً، وبعد نهاية السير أيضاً، وعدم بقاء شيءٍ من آثار العبوديّة، ونيل الفناء الذاتيّ المطلق، فلا يبقى أثرٌ من الاستعاذة والمستعاذ منه والمستعيذ، ولا يكون في قلب العارف شيءٌ سوى الحقّ والسلطنة الإلهيّة. أمّا مقام "وأعوذ بك منك"(1)، فهو إذا أتاه الصحو والأنس والرجوع، بعد ذلك الفناء، تكون الاستعاذة حقيقة أيضاً، ولكن لا كاستعاذة السالك؛ ولهذا أُمر الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بالاستعاذة، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ (الفلق: 1) ، و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ (الناس: 1)، و ﴿أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ*وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ (المؤمنون: 97-98). 2- الاستعاذة مقامان يكون الإنسان مستعيذاً في مقامين: أحدهما حال السلوك إلى الله، وهو يستعيذ من أشواك الوصول التي قعدت على الصراط المستقيم للإنسانيّة، كما حكى سبحانه قول الشيطان: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ (الأعراف: 16)، والآخر في حال الصحو والرجوع من الفناء المطلق، فهو إذاً يستعيذ من الاحتجابات وغيرها.
الركن الثاني: المستعاذ به اعلم، أنّ حقيقة الاستعاذة حيث إنّها متحقّقة في السالك إلى الله، ومتحصّلة في السير والسلوك إلى الحقّ، تختصّ بالسالك في مراتب السلوك، فتختلف الاستعاذة والمستعيذ والمستعاذ منه والمستعاذ به بحسب مقامات السائرين، ومدارج ومنازل السالكين، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ*مَلِكِ النَّاسِ﴾ (الناس: 1-2) ، فيستعيذ السالك بمقام الربوبيّة من مبادئ السلوك إلى حدود مقام القلب، ويمكن أن تكون هذه الربوبيّة، الربوبيّة الفعليّة، في تطابق "أعوذ بكلمات الله التامّات"(2). فإذا انتهى سير السالك إلى مقام القلب، يظهر في القلب مقام السلطنة الإلهيّة، فيستعيذ في هذا المقام بمقام "ملك الناس" من شرّ تصرّفات إبليس القلبيّة وسلطنته الباطنيّة الجائرة، كما يستعيذ في المقام الأوّل من شرّ تصرّفاته الصدريّة، ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ (الناس: 5) ، مع أنّ الوسوسة في القلوب والأرواح أيضاً من الخنّاس؛ لأنّ الأنسب في مقام التعريف أن يكون التعريف بالشأن العموميّ والصفة الظاهرة عند الكلّ. فإذا تجاوز السالك مقام القلب أيضاً إلى مقام الروح، الذي هو من النفخة الإلهيّة، واتّصاله بالحقّ أشدّ من اتّصال شعاع الشمس بالشمس، فيشرع في هذا المقام مبادئ الحيرة والهيمان والجذبة والعشق والشوق، فيستعيذ في هذا المقام بإله الناس.