وكيف فضحهم الله، وكشف عوراتهم، قال تعالى: "إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [المنافقون: 1-2] والثالثة: خلف الوعود أو نقض العهود والغدر، وذلك من أشنع الأخلاق وأرذلها. وكفى به شرا أن يكون من عواقبه مرض النفاق. قال تعالى:" فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ" [التوبة: 77] فاحذر من الانحدار إلى هذا الخلق الحقير، واحرص على الوفاء بالوعد، واحترام العهد حتى تكون من أولي الألباب. متى كان سؤال عمر لحذيفة عن المنافقين ومن صلّى عليه وأين طلب أن يدفن - إسلام ويب - مركز الفتوى. "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ" [الرعد: 20] والرابعة: الفجور في المخاصمة، وعدم الوقوف عند الحق. وهو وزر كبير وجرم خطير يجر إلى مفاسد عظيمة؛ من استباحة الأموال والأعراض، وجحد حقوق الآخرين، وإلصاق التهم الظالمة بهم، ومحاربة الدعاة إلى الحق، وصد الناس عن الحق والهدى والسلوك بهم في مسالك الغواية والردى، فكم من أموال استبيحت، وأعراض انتهكت، ودماء أريقت بسبب فجور المنافقين في خصوماتهم، كم من مريد للحق صدوه عن سلوك الصراط المستقيم وإتباع الحق القويم.
والمنافق ـ على حسب وصفه ـ هو الذي يظهر خلاف ما يبطن، ويتظاهر بالمحبة والصداقة واللين، مع أنه يخفي العداوة والبغضاء، وأنه قد جاء في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية أن المنافق هو الذي يخفى الكفر ويظهر الإيمان، ويضمر العداوة ويظهر الصداقة، ويظهر خلاف ما يبطن. ويوضح شيخ الأزهر في مؤلفه أن سورة «البقرة» التي نزل معظمها في السنوات الأولى من الهجرة، واستمر نزولها إلى قبيل وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفترة قليلة، تحدثت عن المتقين في أربع آيات منها، وهى قوله تعالى: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون». وتحدث عن الكافرين في آيتين، وهما قوله تعالى: «إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. حديث عن المنافقين لكاذبون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم»، ثم ابتدأ القرآن حديثه بعد ذلك عن طائفة ثالثة، ليس عندها إخلاص المتقين وليس لديها صراحة الكافرين، وإنما هي طائفة قلقة مذبذبة، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك. ويؤكد د. طنطاوي أن تلك الطائفة هي طائفة المنافقين، الذين فضحهم القرآن الكريم وأماط اللثام عن خفاياهم وخداعهم في ثلاث عشرة آية، افتتحها عز وجل بقوله: «ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين»، وهذه الآية جاءت لتكون خير مبالغة من رب العزة في الحط من شأنهم، فهم لم يخرجوا عن كونهم ناسا فقط، دون أن يصلوا بأوصافهم إلى أهل اليمين أو إلى أهل الشمال، بل بقوا في منحدر من الأرض، لا يمر بهم سالك الطريق المستقيم ولا سالك الطريق المعوج، وأن القرآن يعبر بلفظ «يقول آمنا» ليفيد أنه مجرد قول باللسان، لا أثر له في القلوب، وإنما هم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
قال النووي رحمه الله: " أما قوله صلى الله عليه وسلم: ( في أَصْحَابِي): فَمَعْنَاهُ: الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى صُحْبَتِي ، كَمَا قال فى الرواية الثانية: ( فى أمتى). و(سم الْخِيَاطِ) ، بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ، الْفَتْحُ أَشْهَرُ ، وَبِهِ قَرَأَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ ، وَهُوَ ثَقْبُ الْإِبْرَةِ. [شرح] شرح حديث من باب صفات المنافقين وأحكامهم في صحيح مسلم - منتديات التعليم نت. ومعناه: لا يدخلون الجنة أبدا ، كما لا يدخل الْجَمَلُ فِي ثَقْبِ الْإِبْرَةِ أَبَدًا " انتهى، من "شرح مسلم" (17/125). وقال التوربشتي رحمه الله: " صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - المعتد بها هي المقترنة بالإيمان، ولا يصح أن تطلق إلا على من صدق في إيمانه، وظهر منه أمارته، دون من أغمض عليهم بالنفاق وإضافتها إليهم لا تجوز إلا على المجاز لتشبههم بالصحابة، وتسترهم بالكلمة، وإدخالهم أنفسهم في غمارهم؛ ولهذا قال في أصحابي، ولم يقل من أصحابي، وذلك مثل قولنا: إبليس كان في الملائكة أي: في زمرتهم ولا يصح أن يقال: كان من الملائكة، فإن الله- سبحانه وتعالى- يقول: كان من الجن.. " انتهى، من "الميسر في شرح مصابيح السنة"، للتوربشتي (4/1296). وروى مسلم (2779) عن أبي الطُّفَيْلِ، قَالَ: " كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: أَخْبِرْهُ إِذْ سَأَلَكَ، قَالَ: كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْهُمْ ، فَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، عن رجل، عن جبير بن مطعم، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ؟ فقال: لتأتينكم أجوركم ، ولو كنتم في جحر ثعلب. وأصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: "إن في أصحابي منافقين". حديث عن المنافقين يخادعون الله. ومعناه: أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم. وتقدم في تفسير قوله: وهموا بما لم ينالوا التوبة:/74 أنه عليه السلام أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر ، أو خمسة عشر منافقا، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم، والله أعلم" انتهى. وحديث جبير المذكور ، قال فيه الحافظ البوصيري: " رواه أبو داود الطيالسي ، وأَبُو بكر بن أبي شَيْبَة ، وأحمد بن منيع ، وأحمد بن حنبل ، والحارث ، وأَبُو يَعْلَى ، كلهم بسند فيه راوٍ لم يسم. " انتهى، من "إتحاف الخيرة المهرة" (3/243). وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله: "قوله تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) الآية.
الفائدة الرابعة: الحديثان دلاَّ على النهي عن الكذب والغدر والفجور في الخصومة وخيانة الأمانة، وهذه الأمور جاءت أدلة أخرى تبين حرمتها، وأن الالتزام بعدمها واجب، واختلف في الإيفاء بالوعد، هل هو واجب أو مستحب؟ ولبيان ذلك يقال ما يلي: أولًا: الوعد بشيء محرم لا يجوز الوفاء به إجماعًا. ثانيًا: الوعد بشيء واجب على الواعد، يجب عليه الوفاء به إجماعًا. ثالثًا: الوعد بشيء مباح اختلف في الإيفاء به على قولين، نوردهما باختصار: القول الأول: أن الوفاء به مستحب، وليس بواجب، وهو قول الجمهور؛ فهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية والظاهرية؛ [ انظر: أحكام القرآن للجصاص (3/442) والأشباه والنظائر لابن نجيم ص (288)، وانظر الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/90)، وانظر الإنصاف (11/52)، وانظر المحلى (8/28)]. حديث عن المنافقين في. واستدلوا بآثار ضعيفة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفيَ فلم يفِ ولم يجئ للميعاد، فلا إثم عليه))؛ رواه أبو داود والترمذي (5/22) وقال: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي... ولا يعرف أبو النعمان وأبو وقاص، وهما مجهولان". والقول الثاني: أن الإيفاء واجب يحرُمُ إخلافُه بلا عذر، وهو وجه عند الحنابلة خلاف المشهود، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وشيخنا ابن عثيمين؛ [ انظر: الإنصاف (11/152)، والاختيارات ص (331)، وأضواء البيان (4/304)، والتعليق على صحيح مسلم لشيخنا (1/253)].