الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد: فإن هذه الآية ليست منسوخة، ولم ينته العمل بها. فقد صرح أهل العلم بالنهي عن رفع الصوت بقرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكروا أن حرمته باقية في حياته، وبعد موته. فلا يرفع الصوت على حديثه إن قرئ، ولا تقدم الآراء عليه. قال ابن الحاج في المدخل: وإن كانوا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم يتذاكرونه، أو أوردوه إذ ذاك شاهدا لمسألتهم، فهو أعظم في النهي، وأبلغ في الزجر؛ لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. لا تَرْفعُوا أَصْوَاتَكُم فوْق صَوْت النَّبيّ - منتدى قصة الإسلام. فيقعون بسبب ذلك في حبط العمل -والعياذ بالله- إذ لا فرق بين رفع الصوت عليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وبين رفعه على حديثه. كذا قال إمام المحدثين مالك بن أنس رحمه الله. اهـ. قال ابن مفلح في الفروع: قال بعضهم: ولا ترفع الأصوات عند حجرته عليه السلام, كما لا ترفع فوق صوته; لأنه في التوقير والحرمة كحياته, رأيته في مسائل لبعض أصحابنا. وفي الفنون: قدم الشيخ أبو عمران المدينة, فرأى ابن الجوهري، الواعظ المصري يعظ, فعلا صوته, فصاح عليه الشيخ أبو عمران: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم, والنبي في الحرمة والتوقير بعد موته، كحال حياته, فكما لا ترفع الأصوات بحضرته حيا، ولا من وراء حجرته, فكذا بعد موته, انزل, فنزل ابن الجوهري, وفزع الناس لكلام الشيخ أبي عمران.
ومن صور محبة النبي صلى الله عليه وسلم والأدب معه: عدم رفع الصوت فوق صوته، وذلك لأن رفع الصوت فوق صوته صلوات الله وسلامه عليه من أسباب حبوط الأعمال، كما قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(الحجرات:2)، وهذا ما خافه ثابت بن قيس رضي الله عنه على نفسه. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد (لم يجد) ثابت بن قيس ، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكِّسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال شرٌ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى بن أنس: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة) رواه البخاري.
يثني الله تعالى على أقوام يغضون أصواتهم عند رسول الله؛ أي: يخفضونها في حضرته وبين يديه؛ كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، هؤلاء يخبر تعالى أنه امتحن قلوبهم للتقوى، أو وسَّعها وشرحها لتحمل تقوى الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((التقوى ها هنا))، ويشير إلى صدره ثلاثًا، ويذكر لهم بشرى نعم البشرى! وهي أن لهم منه تعالى مغفرةً لذنوبهم، وأجرًا عظيمًا يوم يلقونه؛ وهو الجنة دار المتقين، جعلنا الله منهم بفضله. وبما أن الله قد قبض نبيه، ولم يبقَ بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتكلم معه أو نناجيه فنخفض أصواتنا عند ذلك؛ فإن علينا إذا ذُكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا أو ذكر حديثه، أن نتأدب عند ذلك؛ فلا نضحك، ولا نرفع الأصوات، ولا نظهر أي استخفاف أو عدم مبالاة، وإلا يُخشى علينا أن تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر، وعلى الذين يغشون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يرفعوا أصواتهم فيه، إلا لضرورة درس أو خطبة أو أذان أو إقامة [1]. ثم قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 4، 5].
عدم رفع الصوت فوق صوت النبي: محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره من أفضل شعب الإيمان، ومن أجلِّ أعمال القلوب، ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً، ونقدمها على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ومن صور هذه المحبة عدم رفع صوتنا فوق صوته ـ حيا وميتا ـ، قال القاضي أبو بكر بن العربي: "حُرْمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً، وكلامه المأثور بعد موته في الرقعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يُعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به". وقال ابن عطية في تفسيره لهذه الآية: "وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم".