انظر إلى عمق إدراك تلك الصحابية الجليلة، لقيمة العلم الذي كان يأتيهم من السماء، وإلى فهمها لمهمة العلم ودوره، فهي لم تبكِ وفاة حبيبها النبي صلى الله عليه وسلم، الذي انتقل إلى جوار ربه، ولكنها تبكي انقطاع الوحي من السماء. بين اللقطتين لقطة نزول جبريل عليه السلام وبدء الوحي بالفعل «اقرأ»، ثم لقطة بكاء أم أيمن وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهم أجمعين، لانقطاع الوحي وتوقف نهر العلم من السماء، فإن البكاء بهذا المعنى لا ينقطع إلى آخر الدنيا.
6 وجملة { خلق الإنسان من علق} يجوز أن تكون بدلاً من جملة { الذي خلق} بدل مفصَّل من مُجْمل إن لم يقدر له مفعول ، أو بدل بعض إن قُدِّر له مفعول عام ، وسُلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداءً لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام. ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل.
ولم يُذكر لِفعل { اقرأ} مفعول ، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة ، وإما لظهور المقروء من المقام ، وتقديره: اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن. وقوله { باسم ربك} فيه وجوه: أولها: أن يكون افتتاح كلام بعد جملة { اقرأ} وهو أول المقروء ، أي قل: باسم الله ، فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره: ابتدىء ويجوز أن يتعلق ب { اقرأ} الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله. تفسير اقرأ باسم ربك الذي خلق. ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة ، وإقحامُ كلمة ( اسم) لأن الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة ، وهذا الوجه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { باسم الله} حين تلقَّى هذه الجملة. الثاني: أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير { اقرأ} الثاني مقدَّماً على عامله للاختصاص ، أي اقرأ ما سيوحَى إليك مصاحباً قراءتَك ( اسمَ ربك). فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله ، ويكون هذا إثباتاً لوحدانية الله بالإلهية وإبطالاً للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون: باسم اللاتتِ ، باسم العزى ، كما تقدم في البسملة. فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوَحي.
هنا يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((ما أنا بقارئٍ)). هنا قد يَظهر تناقض للناظر لأول وهلة! إنَّ التدبُّر والتفكُّر في آيات الله هو السبيل الوحيد للوصول إلى فهم الأمر. لنَعُدْ إلى كتاب ربنا: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]. إنَّ قول الملَك جبريل عليه السلام في الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم: "اقرأ"، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بقارئٍ)) هنا قَصَد النبي أنه أَمِّيٌّ لا يقرأ ما هو مكتوب، ولكنَّ الملَك كرَّر ذلك عليه ثلاث مرات، فكرَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفس الإجابة في كل مرة. فكان الرد: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]. هنا يَكمُن الفهم العميق. اقرأ بسم ربك الذي خلق - مع القرآن (من الأحقاف إلى الناس) - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام. إنَّ الأمر بالقراءة في الآيات جاء مرتين: في الآية الأولى، وفي الآية الثالثة؛ فهل هناك فرق بين الاثنين؟ إن سياق كل آية يفسر كلًّا منهما. الأولى: جاء بعدها: ﴿ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق: 1] ، ثم ﴿ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1] ، ثم ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾ [العلق: 2].
فإنها نزلت عليه في مبادئ النبوة، إذ كان لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وأمره أن يقرأ، فامتنع، وقال: { ما أنا بقارئ} فلم يزل به حتى قرأ. فأنزل الله عليه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} عموم الخلق، ثم خص الإنسان. وذكر ابتداء خلقه { مِنْ عَلَقٍ} فالذي خلق الإنسان واعتنى بتدبيره، لا بد أن يدبره بالأمر والنهي، وذلك بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم، ولهذا ذكر بعد الأمر بالقراءة، خلقه للإنسان. { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي: كثير الصفات واسعها، كثير الكرم والإحسان، واسع الجود. الذي من كرمه أن علم بالعلم و { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فإنه تعالى أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، ويسر له أسباب العلم. سورة العلق ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) الشيخ احمد العجمي - YouTube. فعلمه القرآن، وعلمه الحكمة، وعلمه بالقلم، الذي به تحفظ به العلوم، وتضبط الحقوق، وتكون رسلًا للناس تنوب مناب خطابهم، فلله الحمد والمنة، الذي أنعم على عباده بهذه النعم التي لا يقدرون لها على جزاء ولا شكور، ثم من عليهم بالغنى وسعة الرزق. #أبو_الهيثم #مع_القرآن 3 2 22, 046