فشعر عمر بن الخطاب بالفخر والسعادة وقال: جددوا لعمير عهدًا ، ولكن عمير بن سعد رضي الله عنه رفض هذا وقال: تلك أيام خلت ، لا عملت لك ، ولا لأحد بعدك ، وقد ظل عمير بن سعد متواجدًا ببلاد الشام حتى توفى فيها وذلك فى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. تصفّح المقالات
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد الخشية على ولاته، يخشى عليهم إقبال الدنيا وعجب الولاية، وخيلاء السلطة وفتنة الإمارة، لهذا كان يتعقب أعمالهم ويسأل عن أحوالهم ويحاسبهم على أفعالهم، وكانت رقابته تستمد قوتها من أمانته، ومراقبته تستمد استمرارها من إحساسه بمسؤوليته، ذلك الإحساس الذي أجرى على لسانه قوله المشهور (لو عثرت شاة على شاطئ دجلة كنت مسؤولا عنها). لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخشى إقبال الدنيا على ولاته حسدا لما في أيديهم، ولكنه كان يخشى أن يكون في ذلك ظلم للرعية، أو استغلال للمنصب أو خيانة للأمانة، فالوالي (أي وال) مطلق الصلاحية في عمله لا يرجع لأمير المؤمنين إلا في جلائل الأمور، ولكن الفاروق بحسه وإحساسه، بأمانته وحرصه، بقوته في الحق وللحق كان يطلب من ولاته أن يكتبوا له بما اتخذوه وفعلوه، ليتخذ من الرقابة اللاحقة ما يقوم به المعوج ويهدي الضال، وتسكن نفسه العادلة أنه أدى الأمانة واستوفى مسؤوليته. ولى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عميرا بن سعد الأوسي الأنصاري إمارة حمص، كانت مؤهلات عمير رضي الله عنه عند الفاروق ورعه وصدقه، وهي المؤهلات التي ينشدها عمر ويرتضيها، وسار عمير إلى حمص وقضى فيها حولا يسوس أمرها ويرعى أهلها ويباشر مسؤوليته برقابة ذاتية من زهده وورعه، لم يكتب لأمير المؤمنين عن أموره ولم يخبره عن أحواله، ولم يبعث له دينارا ولا درهما من الفيء، ولم يكن الفاروق في حاجة إلى فيء أو تطلع إلى مغنم، ولكنه رضي الله عنه بحكم مسؤوليته وأمانته يخشى أن تعصف الدنيا بولاته فيغل أحدهم ويستأثر بشيء من مال المسلمين، وهو المسؤول عنهم أموالا وأعراضا ودماء.
ذات يوم شهدت شوارع المدينة رجلا أشعث أغبر٬ تغشاه وعثاء السفر٬ يكاذ يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا٬ من طول ما لاقى من عناء٬ وما بذل من جهد.. على كتفه اليمنى جراب وقصعة.. وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء. وانه ليتوكأ على عصا٬ لا يؤدها حمله الضامر الوهنان.. ودلف الى مجلس عمر فى خطى وئيدة.. السلام عليك يا امير المؤمنين. ويرد عمر السلام٬ ثم يسأله٬ وقد آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء: ما شأنك يا عمير.. ؟؟ شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح البدن٬ طاهر الدم٬ معي الدنيا أجرها بقرنيها.. قال عمر: وما معك.. ؟ قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي.. وقصعتي آكل فيها.. واداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها٬ وأجاهد بها عدو ا ان عرض.. فوالله ما الدنيا الا تبع لمتاعي.. قال عمر: أجئت ماشيا.. عمير: نعم.. عمر: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها.. ؟ عمير: انهم لم يفعلوا.. واني لم أسألهم.. عمر: فماذا عملت فيما عهدنا اليك به. عمير: أتيت البلد الذي يعثتني اليه٬ فجمعت صلحاء أهله٬ ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم٬ حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به..! عمر: فما جئتنا بشيء.. ؟ عمير: لا.. فصاح عمر وهو منبهر سعيد: جددوا لعمير عهدا.. وأجابه عمير في استغناء عظيم: تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك٬ ولا لأحد بعدك" هذه لصورة ليست سيناريو نرسمه٬ وليست حوارا نبتدعه.. انما هي واقعة تاريخية٬ شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة الاسلام في أيام خلده وعظمته.