إذاً هو شهر العبادة وتربية الرّوح بامتياز. وهي فرصة لنا، أيّها الأحبّة، لتعزيز علاقتنا بالله، لنجدِّدها ونعطيها الحيويّة والفعاليّة، بأن نصلّي كأنها آخر صلاة نؤدّيها ين يدي الله، ونصوم كأنّه آخر صيام نقوم به، ونقرأ القرآن بتدبّر ووعي، وأن نذكر الله بقلوبنا لا بألسنتنا فقط، ونتوب إليه توبةً لا نحتاج بعدها إلى توبة، وهذا إنما يعني تطهّراً وتزكية، كأرقى ما يكون التطهّر والتزوّد والتزكية والاستعداد للقاء الله. شهر البذل والعطاء ونصل إلى المستوى الثّالث والأخير، وهو المستوى الاجتماعيّ، حيث مسؤوليتنا كبيرة لا سيما في هذه الظروف المعيشية القاسية التي نعيشها في هذا البلد، فمن الضروري والواجب أن نضع نصب أعيننا وفي أولويات عملنا مساعدة الفقراء والضعفاء والأيتام أو الذين تركوا أعمالهم بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية أو الذين لا تكفيهم رواتبهم بفعل الغلاء الفاحش وجشع التجار الذين لا بد أن يتخففوا من ثقل أنانياتهم التي تلحق أكبر الأذى بأغلبية الناس.. إن هذا الشهر هو شهر الفقراء والأيتام، وشهر الزكاة وصلة الرّحم، وشهر حسن الخلق وإدخال السّرور على قلوب الكبار والصّغار ومن هم في القبور. ففي هذا الشّهر، لا بد من أن ينعم الفقراء والمساكين والأيتام بالعطايا والبذل والاحتضان أكثر مما ينعمون في بقيّة الشهور، وأن تنمو في المجتمع إرادة الرّغبة والتّواصل مع الأرحام، وتتعزّز قيم المحبّة والرّحمة للصّغار، والتوقير للكبار، مما حرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه»، «وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم... أفرأيت من اتخذ إلهه هواه. »، «وتحنّنوا على أيتام النّاس يتحنَّن على أيتامكم... ».
وأشد عقوباته في الدنيا قبل الآخرة أن ختم الله على سمعه وقلبه فلا يستمع إلى الهدى ولا يؤمن به وأعمى الله بصره وبصيرته فلا يرى بنور الله وإنما بما أملاه عليه هواه, فأوكله الله إلى نفسه ليبوء بالخسران المبين. قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. [الجاثية 23] قال السعدي في تفسيره: يقول تعالى: { { أَفَرَأَيْتَ}} الرجل الضال الذي { { اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}} فما هويه سلكه سواء كان يرضي الله أو يسخطه. افرايت من اتخذ الهه هواه واضله الله. { { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}} من الله تعالى أنه لا تليق به الهداية ولا يزكو عليها. { { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ}} فلا يسمع ما ينفعه، { { وَقَلْبِهِ}} فلا يعي الخير { { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}} تمنعه من نظر الحق، { { فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ}} أي: لا أحد يهديه وقد سد الله عليه أبواب الهداية وفتح له أبواب الغواية، وما ظلمه الله ولكن هو الذي ظلم نفسه وتسبب لمنع رحمة الله عليه { { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}} ما ينفعكم فتسلكونه وما يضركم فتجتنبونه.
وقوله ( وأضله الله على علم) يقول - تعالى ذكره -: وخذله عن محجة الطريق ، وسبيل الرشاد في سابق علمه على علم منه بأنه لا يهتدي ، ولو جاءته كل آية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. حدثني علي قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( وأضله الله على علم) يقول: أضله الله في سابق علمه. وقوله ( وختم على سمعه وقلبه) يقول - تعالى ذكره -: وطبع على سمعه أن [ ص: 77] يسمع مواعظ الله وآي كتابه ، فيعتبر بها ويتدبرها ، ويتفكر فيها ، فيعقل ما فيها من النور والبيان والهدى. أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم. وقوله ( وقلبه) يقول: وطبع أيضا على قلبه ، فلا يعقل به شيئا ، ولا يعي به حقا. وقوله ( وجعل على بصره غشاوة) يقول: وجعل على بصره غشاوة أن يبصر به حجج الله ، فيستدل بها على وحدانيته ، ويعلم بها أن لا إله غيره. واختلفت القراء في قراءة قوله ( وجعل على بصره غشاوة) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( غشاوة) بكسر الغين وإثبات الألف فيها على أنها اسم ، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة ( غشوة) بمعنى: أنه غشاه شيئا في دفعة واحدة ، ومرة واحدة ، بفتح الغين بغير ألف ، وهما عندي قراءتان صحيحتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.