وقد ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أُمور أُخرى، سنوردها في نهاية تفسير هذه الآية. التّفسير: ضرورة قطع العلاقات مع الأعداء: نهت الآية الأُولى النّبي (ص) والمؤمنين عن الإِستغفار للمشركين بلهجة قاطعة وحادة، فهي تقول: (ما كان للنّبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) ولكي توكّد ذلك قالت: (ولو كانوا أولي قربى). ثمّ أنّ القرآن الكريم بيّن سبب ودليل هذا الحكم فقال: (من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم) فإنّ هذا العمل - أي الإستغفار للمشركين - عمل لا معنى له وفي غير محله، لأنّ المشرك لايمكن العفو عنه بأي وجه، ولا سبيل لنجاة من سار في طريق الشرك، إِضافةً إلى أن طلب المغفرة نوع من إظهار المحبة والإِرتباط بالمشركين، وهذا هو الأمر الذي نهى عنه القرآن مراراً وتكراراً. تفسير: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين). ولما كان المسلمون العارفون بالقرآن قد قرأوا من قبل أن إِبراهيم استغفر لعمه آزر، ولذا فمن الممكن جدّاً أن يتبادر الى اذهانهم هذا السؤال: ألم يكن آزر مشركاً؟ وإِذا كان هذا العمل منهياً عنه فكيف يفعله هذا النّبي الكبير؟ لهذا نرى أن الآية الثّانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن القلوب، فقالت: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلاّ عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن أنّه عدوّ لله تبرأ منه).
وقد صرّح بذلك كل علماء الشيعة، وجماعة من علماء السنة كابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) والقسطلاني في (إِرشاد الساري) وزيني دحلان في (حاشية السيرة الحلبية). وقلنا أن المحقق المدقق إِذا لاحظ المد السياسي المغرض الذي تزعمه حكام بني أُمية ضد علي (ع) ، استطاع أن يقدر بأن كل من ارتبط بأميرالمؤمنين عليه السلام لم يبق بمنأى عن التعرض المغرض. في الحقيقة، أنّ أباطالب لم يكن له ذنب سوى أنّه أبو علي بن أبي طالب (ع) إِمام المسلمين، وقائدهم العظيم! ألم يتهموا أباذر، ذلك المجاهد الإِسلامي الكبير لحبّه وعشقه لعلي (ع) ، وجهاده ضد مذهب عثمان ؟! (لمزيد الإِطلاع على إِيمان أبي طالب الذي كان حامياً لرسول الله (ص) في جميع مراحل حياته، ومدافعاً عنه، ومطيعاً لأوامره، راجع الآية (25) و (26) من سورة الانعام في المجلد الرّابع من تفسيرنا هذا). 2 - لماذا وعد إِبراهيم آزر بالإِستغفار؟ وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: كيف وعد إِبراهيم عمّه آزر بالإِستغفار، وحسب ظاهر هذه الآية وآيات القرآن الأُخرى، فإنّه قد وفى بوعده، مع العلم أنّه لم يؤمن أبداً، وكان من المشركين وعبدة الأصنام الى آخر حياته، والإِستغفار لمثل هؤلاء ممنوع؟ وللإِجابة على هذا السؤال ينبغي الإِنتباه أوّلا إِلى أنّه يستفاد من الآية - بوضوح - أنّ إِبراهيم كان يأمل أن يجذب آزر إِلى الإِيمان والتوحيد عن هذا الطريق، وكان استغفاره في الحقيقة هو: اللّهم اهده، وتجاوز عن ذنوبه السابقة.
ثمّ يقول: ما المانع من أن يكون هذا الأمر - أي الإِستغفار - مجازاً للنّبي (ص) والمؤمنين إِلى ذلك الوقت؟! إِنّ الفخر الرازي إِذا حرر نفسه من قيود التعصب، سيلتفت إِلى عدم إِمكان أن يستغفر النّبي (ص) لفرد مشرك طوال هذه المدّة، في الوقت الذي كانت آيات كثيرة من القرآن الكريم قد نزلت إِلى ذلك الزمان تدين وتشجب أي نوع من مودة المشركين ومحبتهم ( 2). ثالثاً: إِنّ الشخص الوحيد الذي روى هذه الرّواية هو "سعيد بن المسيب"، وبغضه وعداؤه لأميرالمؤمنين علي (ع) أشهر من نار على علم، وعلى هذا لايمكن الإِعتماد على روايته في شأن علي (ع) أو أبيه أو أبنائه مطلقاً. لقد نقل "العلاّمة الأميني (قدس سره) " - بعد أن أشار إِلى الموضوع أعلاه - كلاماً عن "الواقدي" يستحق التوقف عنده، حيث يقول: إِن سعيد بن المسيب مر بجنازة الإِمام السجاد علي بن الحسين (ع) ولم يصل عليها، واعتذر بعذر واه، إلاّ أنّه على قول ابن حزم - لما سئل: أتصلي خلف الحجاج أم لا؟ قال: نحن نصلّي خلف من هو أسوأ من الحجاج! رابعاً: كما قلنا في الجزء الخامس من هذا التّفسير، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ أبا طالب قد آمن بالنّبي (ص) ، وبِيّنا الأدلة الواضحة على ذلك، وأثبتنا بأنّ ما قيل في عدم إِيمان أبي طالب هو تهمة كبيرة.