ومن البراهين في ابطال القياس وقوله تعالى { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} وقال تعالى { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} وقال تعالى { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}. فحرم الله تعالى أن نقول عليه ما لا نعلم وما لم يعلمنا فلما لم نجد الله أر بالقياس ولا علمنا أياه علمنا أنه باطل لا يحل القول به في الدين. وأيضا فأنه يقال في أي شيء يحتاج إلى القياس أفي ما جاء به النص والحكم من الله تعالى ورسوله ؟ أم فيما لم يأت به نص ولا حكم من الله تعالى ولا من رسوله ولا سبيل إلى ثالث. لقد كفر الذين قالوا ان الله هو. فان قالوا فيما جاء به النص علم أنه باطل لأنه لو كان كذلك لكان الواجب تحريم ما أحل الله تعالى بالقياس وتحليل ما حرم الله تعالى وايجاب ما لم يوجبه الله تعالى وإسقاط ما أوجبه الله عز وجل. وان قالوا بل فيما لا نص فيه قلنا قد ذم الله تعالى هذا وكذب قائله فأما ذمه ذلك ففي قوله عز وجل { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}.
يقول جل ثناؤه: أقسم، لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم= و " كفرهم " في ذلك، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز، وادِّعائهم أن المسيح هو الله، فرية وكذبًا عليه. (24) * * * وقد بينا معنى: " المسيح " فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (25). تفسير قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة... - إسلام ويب - مركز الفتوى. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للنصارى الذين افتروا عليّ، وضلُّوا عن سواء السبيل بقيلهم: إنّ الله هو المسيح ابن مريم: " من يملك من الله شيئًا " ، يقول: من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا، فيردّه إذا قضاه. * * * = من قول القائل: " ملكت على فلان أمره " ، إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرًا إلا به. (26) * * * وقوله: " إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا " ، يقول: من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئًا، إن شاء أن يهلك المسيح ابن مريم، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا.
* * * معاني المفردات {يُشْرِكْ}: أصله الاجتماع في الملك، فإذا كان الملك بين نفسين فهما شريكان، وكذلك كل شيء بين نفسين، ولا يلزم على ذلك ما يضاف إلى كل واحد منهما منفرداً، كالعبد يكون ملكاً لله وهو ملك للإنسان، لأنَّه لو بطل ملك الإنسان لكان ملكاً لله كما كان لم يزد في ملكه شيء لم يكن. {لَيَمَسَّنَّ}: المسّ ـ ههنا ـ معناه ما يكون معه إحساس وهو حلوله فيه، لأنَّ العذاب لا يمس الحيوان إلاَّ إذا أحس به، وقد يكون المسّ بمعنى اللمس. إسلام ويب - تفسير البغوي - سورة المائدة - تفسير قوله تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم "- الجزء رقم3. {يُؤْفَكُونَ}: الإفك: الكذب لأنَّه صرفٌ عن الحقّ، وكل مصروفٍ عن شيء، مأفوك عنه، وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر، والمؤتفكات المتقلبات من الرياح لأنَّها صرفت عن وجهها. {لاَ يَمْلِكُ}: الملك: القدرة على تصريف ما للقادر عليه أن يصرفه، فملك الضرر والنفع أخص من القدرة عليها، لأنَّ القادر قد يقدر من ذلك على ما له أن يفعل، وقد يقدر منه على ما ليس له أن يفعل. {ضَرّاً}: الضرر: هو فعل الألم والغم، أو ما يؤدي إليهما أو إلى واحدٍ منهما، كالآلام الّتي توجد في الحيوان، وكالقذف والسبّ، لأنّ جميع ذلك يؤدي إلى الألم. {نَفْعاً}: النفع: هو فعل اللذة والسرور، أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما مثل الملاذ الّتي تحصل في الحيوان، والصلة بالمال، والوعد باللذة، فإنَّ جميع ذلك نفع لأنَّه يؤدي إلى اللذة.
* * * وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية. (12) كانوا فيما بلغنا يقولون: " الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعة بينهما ".
وما قاله السدي هو المختار في تفسير الآية، وانظر للتوسع تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن:4/652)، وتفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن: 6/161) والله أعلم.
ثم قال ردا عليهم: ( وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن) [ ليصيبن] ( الذين كفروا منهم عذاب أليم) خص الذين كفروا لعلمه أن بعضهم يؤمنون. ( أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) ؟ قال الفراء: هذا أمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى: فهل أنتم منتهون ( المائدة ، 91) ، أي: انتهوا ، والمعنى: أن الله [ يأمركم] بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم ، ( والله غفور رحيم) قوله تعالى: ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت) [ مضت] ( من قبله الرسل) أي: ليس هو بإله بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة) ( وأمه صديقة) أي: كثيرة الصدق. [ ص: 83] وقيل: سميت صديقة لأنها صدقت بآيات الله ، كما قال عز وجل في وصفها: " وصدقت بكلمات ربها " ( التحريم ، 12) ، ( كانا يأكلان الطعام) أي: كانا يعيشان بالطعام والغذاء كسائر الآدميين ، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام؟ وقيل: هذا كناية عن الحدث ، وذلك أن من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ، ومن هذه صفته كيف يكون إلها؟ ثم قال: ( انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) أي يصرفون عن الحق.
ولم يكن في أمّه أيّ سرٍ من أسرار القداسة الغيبية التي توحي بعبادتها من قبل النَّاس، بل كانت قداستها الروحيّة بإخلاصها لله وصدقها في إيمانها به كأيةّ مؤمنةٍ تقيّةٍ أخرى، ولكن بدرجةٍ أكبر وقيمةٍ أعلى، لأنَّ الله فضّلها على نساء العالمين. وقد {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} كما يأكله بقيّة البشر، في نوعيته وطريقته، فليس هناك أكل إلهي أو طريقة إلهيّة في الأكل. وذلك هو دليل المادية والحاجة والفاقة المنافية للألوهية، فكيف يؤلهون مَنْ هذا شأنه؟ {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}، يكذِّبون ويتبعون الإفك من دون شعورٍ بالمسؤوليّة في خط العقيدة والعمل.