كما أن الطوفي لم يُمثِّل للمصلحة التي تُقدَّم على النص، وهو ما يؤكد أنه لا يقصد المصلحة العقلية المحضة التي يقصدها أصحاب القراءات الجديدة للنص الشرعي، بل يقصد المصلحة الشرعية التي جاءت الشريعة باعتبارها، وفي الحقيقة أنه لا يتصوَّر وجود تعارض بين المصلحة والنص؛ فالنص لا يمكن أن يأتي بما يُعارِض المصلحة، ولا تأتي النصوص إلا بأكمل المصالح وأنفعها. فمقصود الطوفي هو ما يظن أنه نص وليس كذلك؛ وإلا فالنص إذا ثبت لا يمكن أن يخالف المصلحة؛ وإنما تحصل المعارضة مع نصٍ غير صحيح ولا صريح أو مع مصلحة موهومة غير حقيقية. تقديم في نجم للتامين. وهذا يدعونا إلى السؤال الثاني: هل طريقة بعض المعاصرين في تحريف الشريعة باسم المصلحة لها علاقة بنظرية الطوفي؟ الواقع أن ثَمَّ فروقاً جوهرية بين مقولة الطوفي وبين من يستند إليه من المعاصرين: الاختلاف الجوهري في فهم المصالح: فنظرة الطوفي إلى المصالح تعتمد على الميزان الشرعي في تعريف وتحديد المصلحة؛ فالمصالح تعمّ ما ينفع الناس في الدنيا والآخرة، وهي شاملة لما فيه حفظ الدين والدنيا، ويندرج فيها كلُّ ما جاءت الشريعة به من الأصول والأحكام. هذه صورة المصالح عند الطوفي وعند غيره من العلماء.
بينما تقوم الطريقة الحداثية ومن تأثر بها على إعمال المصالح الدنيوية المحضة، ومواكبة العصر، ومسايرة التطور، ثم وجدوا أثناء ذلك نصوصاً وأدلة لا تنتج ما يريدون، فاضطروا إلى تأويلها وتحريفها حتى لا تكون عائقاً عن الحداثة والتقدُّم، بل إن بعضهم لم يلتفت إليها أصلاً إلا لمَّا رأى أن الناس منجذبين إلى هذه النصوص فعَلِمَ أن مجرَّد الإعراض عن النصوص لا يكفي؛ فلا بد من عودة إليها لتخليص العقل المسلم من الانجذاب نحوها، فشتان بين من ينظر في النصوص ليهتدي بها ويسير وراءها ممن يفكِّر خارجها ولا يأتي إليها إلا لمهمة التخلُّص منها.
لمصطفى زيد). فخلاصة الأمر في نظرية الطوفي أنها تقوم على خمس قواعد جوهرية: 1 - المصالح لا تُقدَّم على النصوص القطعية. 2 - المصالح لا تُقدَّم على النصوص الشرعية المتعلقة بالعبادات والمقدرات. 3 - المصالح المقصودة هي المصالح الشرعية التي جاءت الدلائل الشرعية باعتبارها. تقديم مطالبة في نجم. 4 - أنه لا يلجأ إلى تقديم المصالح إلا بعد تعذُّر الجمع بين المصلحة والنص. 5 - أن تقديم المصالح هو من باب تخصيص العموم وليس من الافتيات أو الردِّ الكلي للنص الشرعي. فحقيقة كلام الطوفي قريب من تقرير عموم الأصوليين في الموضوع في المبحث الأصولي الشهير (تخصيص النص)؛ حيث يُقرِّر الأصوليون أن عموم النص قد يكون ضعيفاً أو محتملاً لبعض الأفراد فيتم تخصيصه بناءً على نصٍّ آخر أو قياس أو مصلحة ضرورية أو حاجية ملائمة للشريعة، مع اختلاف بينهم في مدى إعمال هذه القاعدة وفي المسميات الأصولية التي يطلقونها على هذا الباب، فحقيقته في النهاية أنه من تخصيص النص بالنص، ومن إعمال النصوص جميعاً، ومن منهجية دفع التعارض عن النصوص[2]. فالطوفي لم يخرج عن قاعدة الأصوليين هذه، لكن تعبيره عن رأيه الفقهي بهذه الصياغة "تقديم المصلحة على النص" لم يكن موفَّقاً ولا مُهّذَباً مع الدليل الشرعي، وقد كان سبباً لأن تتخذ مسماراً تشق به كلُّ قطعيات الشريعة، وأصبح الطوفي بعدها منبراً يعلو عليه كلُّ محرِّف تائه ليصرخ في وجه الشريعة باسم الطوفي، فرحمه الله وعفا عنه.