وفي تفسير القمي في قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} [النساء: 148] إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح ، فلا تقبله منه فكذبه فقد ظلمك ". أقول: إما عدم القبول لعدم الحقيقة ونفي الواقع ، وإما تكذيبه لإرشاده إلى الواقع، والمراد من قوله (عليه السلام): " فقد ظلمك " ؛ لأنه قال فيك ما ليس فيك ، فإنه يوجب حب الثناء والمحمدة ، ويعتبر ذلك عند علماء الأخلاق أم الفساد وأصل المهلكات ؛ لما يستلزم الغرور وصرف النفس عن نيل الكمال والبعد عن الحقائق والوقوع في المساوئ والضلال ، وذلك ظلم كبير. وفي المجمع: قال في الآية المباركة: " لا يحب الله الشتم في الانتصار ، إلا من ظلم ، فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلم بما يجوز الانتصار في الدين ". أقول: الروايات الدالة على أن الله تبارك وتعالى يبغض القول السيء أو الشتم كثيرة جدا ، إلا من ظلم بما يجوز في الدين ، فلو حمل التعدي أو مما لا يجوز في الدين ، فلم يرخصه الشارع. وفي الدر المنثور: " إن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: من دعا على من ظلمه فقد انتصر. أقول: ورد في الروايات المستفيضة أن دعاء المظلوم لا يرد ، وأنها تخرق الحجب السبع.
في تفسير العياشي بإسناد ، عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] ، قال " من أضاف قوما فأساء ضيافتهم ، فهو ممن ظلم ، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه". اقول: قريب منه ما في الدر المنثور ، ومعنى الرواية أنه لا يجوز التعدي عن ما لاقاه الضعيف من سوء الضيافة ، نفاية ما يجوز له أن يقول مثلا: " ( لم يحسن ضيافتي ، أو أساء في ضيافته) ، فإن ذلك نوع من الظلم الخلقي ، ومن المعلوم أن للظلم أنواعاً ، ولكن نوع مراتب ، وفي كل مرتبة درجات ، والرواية من باب ذكر أحد المصاديق كما هو واضح منها. وفي تفسير العياشي عن ابي الجارود عن الصادق (عليه السلام): {الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148] قال: أن يذكر الرجل بما فيه ". أقول: لا بد وأن يقيد بما لم يكن من المستثنيات. وفي تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] قال: " لا يحب الله أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ولا يظلم ، إلا من ظلم ، فقد أطلق له أن يعارضه الظلم ". أقول: المراد من ذيل الرواية بما لا يوجب التعدي عليه أو ينافي الشرع ، وإلا فلا يجوز كما تقدم ، وفي بعض الروايات: " إن الله تعالى جعل لكن شيء حدا ، وجعل على من تعدى الحد حدا ".
إذن فاللغة هي بنت المحاكاة. وما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. ونعلم أن اللغة ليست جنسا وليست دما، بمعنى أن الطفل الإنجليزي لو نشأ في بيئة عربية، فهو يتحدث العربية. ولو أخذنا طفلا عربيا ووضعناه في بيئة إنجليزية فسيتكلم الإنجليزية. واللغة الواحدة فيها ألفاظ لا يتكلم بها لسان إلا إن سمعها، وإن لم يسمعها الإنسان فلن ينطق بها. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي المجتمع الإيماني من قالات السوء التي تطرق آذان الناس لأنها ستعطيهم لغة رديئة؛ لأن الناس إن تكلمت بقالات السوء، فسيكون شكل المجتمع غريبا، وتتردد فيه قالات سوء في آذان السوء، فكأن الحق سبحانه يوضح: إياكم أن تنطق ألسنتكم بأشياء لا يحبها الله، فليست المسألة أن يريد الإنسان نفسه فقط بنطق كلمة، ولكن نطق هذه الكلمة سيرهق أجيالًا؛ لأن من يسمع الكلمة الرديئة سيرددها، وسيسمعها غيره فيرددها، وتتوالى القدوة السيئة. ويتحمل الوزر الإنسان الذي نطق بكلمة السوء أولًا. وقالات السوء هذه قد تكون بالحق وقد تكون بالباطل، فإن كانت في الحق مثلا فلن نستطيع أن نقول: إن كل الناس أهل سوء. وقد يبتدئ إنسان آخر بسباب، ويجوز أن يدعي إنسان على آخر سبابا. إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يحمي الآذان الإيمانية من ألسنة السوء، لذلك يقول: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} ومقابلها بالطبع هو: أن الله يحب الجهر بالحسن من القول.
الإعراب: (يأيها الذين آمنوا) مرّ إعرابها، (لا) ناهية جازمة (تتخذوا) مضارع مجزوم وعلامة الجزم حذف النون... والواو فاعل (الكافرين) مفعول به منصوب وعلامة النصب الياء (أولياء) مفعول به ثان منصوب (من دون) جار ومجرور متعلق بأولياء، (المؤمنين) مضاف إليه مجرور وعلامة الجر الياء الهمزة للاستفهام الإنكاري (تريدون) مضارع مرفوع... والواو فاعل (أن) حرف مصدري ونصب (تجعلوا) مضارع منصوب وعلامة النصب حذف النون... والواو فاعل. والمصدر المؤول (أن تجعلوا) في محل نصب مفعول به عامله تريدون. (للّه) جار ومجرور متعلق بمحذوف مفعول به ثان لفعل تجعلوا (على) حرف جر و(كم) ضمير في محل جر متعلق بمحذوف حال من (سلطانا)- نعت تقدم على المنعوت- (سلطانا) مفعول به منصوب (مبينا) نعت منصوب. جملة النداء (أيها الذين... وجملة (آمنوا) لا محل له صلة الموصول (الذين). وجملة (لا تتخذوا) لا محل لها جواب النداء. وجملة (تريدون... ) لا محل لها استئناف بياني. وجملة (تجعلوا... ) لا محل لها صلة الموصول الحرفي (أن).. إعراب الآيات (145- 146): {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)}.
وقد أخذ المظلوم حقه مما يهبه سبحانه وتعالى له ؛ ولذا انتصر. وفي بعض التواريخ يحكى عن ابن السكيت (رضوان الله تعالى عليه) معلم أبناء المتوكل: جلس معه المتوكل يوماً فجاء المعتز والمؤيد ابنا المتوكل ، فقال له: أيهما أحب إليك ابناي ، أم الحسن والحسين (عليه السلام) ؟ فقال ابن السكيت: والله إن قنبر خادم علي (عليه السلام) خير منك ومن ابنيك ، فقال المتوكل العباسي: سلوا لسانه من قفاه ، ففعلوا فمات ، ومن العجب أنه أنشد قبل ذلك للمعتز والمؤيد. يصاب الفتى من عثرة بلسانه وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته في القول تذهب رأسه وعثرته في الرجل تبرأ على مهل. أقول: لعل ابن السكيت (رحمه الله) رأى تكليفه في إظهار الحقيقة والواقع ، وعلم أن المتوكل أراد قتله على أي حال استعمل التقية أو لم يستعملها ، وإلا كان له الفرار من البلاء بذريعة التقية أو بغيرها ولم يتجاهر بعقيدته أو بالواقع ؛ لقاعدة تقديم الأهم وهو حفظ النفس المؤمنة على غيره وهو المهم ، أو هيجه حبه لأهل البيت (عليه السلام) ، وكيف كان فرضوان الله تعالى عليه.