قال مقيده عفا الله عنه: الظاهر أن هذا القول من قبيل السالبة [ أي: القضية السالبة في علوم المنطق] ؛لا تقتضي وجود الموضوع ، والمراد: أن المقصود نفى اتصاف المحكوم عليه بالمحكوم به ، وذلك صادق بصورتين: الأولى: أن يكون المحكوم عليه موجوداً ، ولكن المحكوم به منتف عنه، كقولك ليس الإنسان بحجر، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه. الثانية: أن يكون المحكوم عليه غير موجود ، فيعلم منه انتفاء الحكم عليه بذلك الأمر الوجودي، وهذا النوع من أساليب اللغة العربية ، كما أوضحناه في كتابنا "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب"، ومثاله في اللغة قول امرىء القيس: عَلى لاحِبٍ لا يَهتَدي بِمَنارِهِ إِذا سافَهُ العَودُ النُباطِيُّ جَرجَرا أي: لا منار له أصلاً حتى يهتدي به. وقوله: لا تُفزِعُ الأَرنَبَ أَهوالُها وَلا تَرى الضَبَّ بِها يَنجَحِر يعني: لا أرانب فيها ولا ضباب. وعلى هذا فقوله ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا): أي لا عمد لها حتى تروها. خلق الله السموات ورفعها : - منبر العلم. ". انتهى من "أضواء البيان" (3/67). وقال الشيخ السعدي- رحمه الله -: " أي: ليس لها عمد من تحتها ، فإنه لو كان لها عمد، لرأيتموها " انتهى من "تيسير الكريم الرحمن" ( ص:412). وقال الشيخ ابن عاشور رحمه الله: " وَجُمْلَةُ تَرَوْنَها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ السَّماواتِ ، أَيْ لَا شُبْهَةَ فِي كَوْنِهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ " انتهى من "التحرير والتنوير" (13/80).
والسماوات، ومن فيها وما فيها من غيب الله المكنون الذي لا نعلم عنه إلا ما جاء به الوحي في كتاب الله أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه السماوات أمسكها الله تعالى بقدرته، وبغير عمد يراها الناس.... قال ابن عطية في تفسيره: للسماوات عمد غير مرئية، قاله مجاهد وقتادة. قال بعض العلماء المعاصرين: وهذه الآية الكريمة من آيات الإعجاز في القرآن الكريم، وجاء مثلها في سورة الحج، وهو قول الله تبارك وتعالى: ِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65]. ومثلها في سورة فاطر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [فاطر:41]. ولعل الأعمدة التي تمسك السماء وهي لا ترى هي الجاذبية التي تجعل لكل شيء مداراً ثابتاً بقدرة الخالق سبحانه.. وتلك الجاذبية جعلها الله سبحانه حائلة دون أن ينهارالكون وتصطدم الشمس بالقمر وتتناثر الكواكب، وقد أشار إلى هذا المعنى بعض العلماء المعاصرين. والحاصل أن هذه الآية وما أشبهها تشير إلى بعض مظاهر قدرة الله تعالى في هذا الكون.. ذلك أن الجاذبية لم تكتشف إلا بعد نزول القرآن بمئات السنين، وهي كذلك دليل قاطع وبرهان واضح على أن هذا القرآن منزل من عند الله -سبحانه وتعالى- وأنه معجزة الإسلام الخالدة يتجلى صدقه وإعجازه في الكون والنفس والآفاق.
"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (3) قال الله تعالى في سورة الرعد: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) وفي سورة لقمان قال: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) القول الصحيح في المراد بالآية أن الله رفع السماء بغير عمد كما نراها بكل وضوح. والآن إلى تفصيل خلاف المفسرين في هذه الآية. في قوله: (بغير عمد ترونها) قولان: القول الأول: أن السماوات مرفوعة بعمد ولكنها غير مرئية, فالضمير في (ترونها) يعود للعمد, أي: بلا عمد مرئية, بل بعمد غير مرئية. (مال إلى هذا القول الماتريدي* كما سيأتي) القول الثاني: مرفوعة بغير عمد, فالضمير يعود للسماء, فمعنى (بغير عمد ترونها) أي: بلا عمد كما ترونها. كما تقول لصاحبك: أنا بغير سيف ولا رمح تراني. وهذا القول هو الصحيح. (رجح هذا القول ابن عطية*, والبغوي*, وابن كثير*, والشنقيطي*) (واقتصر عليه ابن عاشور*, وصاحب الظلال*) (وذكر القولين دون ترجيح الزمخشري*, والقرطبي*) قال ابن عطية: " وهذا قول الحسن والناس ". وقال: " هذا المعنى أصح والجمهور عليه أنه لا عمد للسماوات البتة ". ومال الماتريدي إلى القول الأول كما أشرت, فإنه قال في سورة الرعد: " ولكن اللطف والأعجوبة بما يمسكها بعمد لا ترى, كاللطف والأعجوبة فيما يمسكها بغير عمد, لأن في الشاهد لم يعرف ولا قدر على رفع سقف فيه سعة وبعد بغير عمد لا ترى، لكن ما يرفع إنما يرفع بعمد ترى, فاللطف في هذا كاللطف في الآخر".