وقد ذكر الإمام ابن رجب ذلك عند ترجمته لشعبة، حيث قال: "وهو أول من وسّع الكلام في الجرح والتعديل واتصال الأسانيد وانقطاعها، ونقّب عن دقائق علم العلل، وأئمة هذا الشأن بعده تبع له في هذا العلم". وروى شعيب بن حرب عن شعبة قوله: "اختلفت إلى عمرو بن دينار خمسمائة مرة وما سمعت منه إلا مائة حديث"، وعن أبى الوليد قال: قال شعبة: "كنت آتى قتادة فأسأله عن حديثين فيحدثنى، ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا حتى أحفظهما وأتقنهما". - عبادته وخشيته وزهده في الدنيا: كان عابدا زاهدا يصوم الدهر كله، قال الإمام البغوي: حدثني جدي أحمد بن منيع، سمعت أبا قطن يقول: "ما رأيت شعبة ركع قط إلا ظننت أنه نسي، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي". وقال عمر بن هارون: "كان شعبة يصوم الدهر كله"، وقال أبو بحر البكراوي: "ما رأيت أحدًا أعبدَ لله من شعبة، لقد عبدَ الله حتى جف جلده على عظمه واسود". وقال عبد السلام بن مطهر: "ما رأيت أحدا أمعن في العبادة من شعبة"، وكان شعبة بن الحجاج يقول: "ما شيء أخوف عندي من أن يدخلني النار من الحديث"، وقال حمزة بن زياد الطوسي: "سمعت شعبة - وكان ألثغ قد يبس جلده من العبادة - يقول: لو حدثتكم عن ثقة ما حدثتكم عن ثلاثة".
ومن هولاء الرجال العباقرة، الإمام المشهور، والعلم المنشور، في المناقب مذكور، له التقشف والتعبد، والتكشف عن الأخبار والتشدد، أمير المؤمنين في الرواية والتحديث، وزين المحدثين في القديم والحديث، أكثر عنايته بتصحيح الآثار والتبري من تحمل الأوزار المتثبت المحجاج أبو بسطام شعبة بن الحجاج (1) بن الورد، الأزدي العَتكي (2) مولی الأشاقر، واسطي الأصل، بصري الدار(3)، وهو من أتباع التابعين، وأعلام المحدثين، وكبارالمحققين. (4) ولادته: كان مولده سنة ثلاث وثمانين بنهريان، قرية أسفل من واسط. (5) قيل: ولد سنة ثمانين، في دولة عبد الملك بن مروان، وقال أبو زيد الهروي: ولد سنة اثنتين وثمانين. (6) أساتذته وشيوخه: حرص المترجم علی أن يتلقی العلم من أفواه الرجال علی ما جرت به عادة أهل الإسلام، فرحل في سبيل ذلك إلی كثير من الشيوخ والأساتذة واستفاد منهم. ونحن في هذا المقال نذكر بعض أساتذته: إسماعيل بن علية، والأشعث بن عبدالله السجستاني (7)، وأبان بن تغلب، وثابت البناني، وجعفر الصادق، وسعيد المقبري، وسماك بن الوليد، ويحيی بن سعيد الأنصاري (8)، وأنس بن سيرين، وإسماعيل بن رجاء، وسلمة بن كهيل، وجامع بن شداد، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وعمرو بن مرّة، وعمرو بن دينار، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب السختياني.
رواه ابن أبي حاتم. - وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان سفيان يقول: (شعبة أمير المؤمنين في الحديث). رواه البخاري في التاريخ الكبير، وابن أبي حاتم، وابن عدي. - وقال سلمة السعدي: سمعت ابنَ إدريس، يقول: (رأيت في المنام كأني أحفر بحراً، فقدمت إلى هذه المدينة، يعني: بغداد، فلقيت شعبة بن الحجاج). رواه الخطيب البغدادي. ابن إدريس هو: عبد الله بن إدريس الأودي. - وقال محمد بن المنهال: سمعت يزيد بن زريع قال: (لم أرَ في الحديث أصدق من شعبة). رواه ابن أبي حاتم. - وقال وكيع بن الجراح: (إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة في الجنة درجات بذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). - وقال عفان بن مسلم: قال لي يحيى بن سعيد: ( ما رأيت أحداً قط أحسن حديثاً من شعبة). رواه الخطيب البغدادي. - وقال أبو سعيد السكري: سمعت يحيى بن معين، يقول مرارا: (شعبة إمام المتقين). رواه الخطيب البغدادي. - وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: (كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن، يعني: في الرجال، وبصره بالحديث، وتثبته، وتنقيته للرجال). رواه ابن عدي في الكامل، والخطيب البغدادي في تاريخه. - وقال محمد بن طريف الأعين: حدثنا قراد أنه سمع شعبة يقول: (كل شيء ليس في الحديث سمعت فهو خلّ وبقل).
قال حماد بن زيد: إذا خالفني شعبة في حديث ، صرت إليه. وقال أبو داود الطيالسي: سمعت من شعبة سبعة آلاف حديث ، وسمع منه غندر سبعة آلاف. قلت: يعني بالآثار والمقاطيع. قال أبو قطن: كتب لي شعبة إلى أبي حنيفة يحدثني فأتيته ، فقال: كيف أبو بسطام ؟ قلت: بخير. قال: نعم حشو المصر هو. [ ص: 207] أحمد بن زهير: حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا عبد الرحمن ، عن شعبة ، سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول: كلما نعق بهم ناعق اتبعوه. قال: وحدثنا أحمد ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا شعبة: رأيت الحسن قام إلى الصلاة وقال: لا بد لهؤلاء الناس من وزعة. قرأت على أحمد بن محمد الحافظ بمصر ، وأحمد بن عبد الرحمن العلوي بدمشق ، قالا: أنبأنا عبد الله بن عمر ، أنبأنا عبد الأول بن عيسى ، أنبأنا عبد الرحمن بن محمد بن عفيف البوشنجي في سنة سبع وسبعين وأربع مائة ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح الأنصاري ، بهراة ، أنبأنا أبو القاسم البغوي سنة سبع عشرة وثلاث مائة ، حدثني أحمد بن زهير ، حدثنا سليمان بن أبي شيخ ، حدثني صالح بن سليمان ، قال: كان شعبة مولى للأزد ، ومولده ومنشؤه بواسط ، وعلمه كوفي. كان له ابن يقال له سعد ، وكان له أخوان: بشار ، وحماد ، وكانا يعالجان الصرف.
وكان شعبة يقول لأصحاب الحديث: ويلكم الزموا السوق ، فإنما أنا عيال على أخوي. قال: وما أكل شعبة من كسبه درهما قط. وبه: قال البغوي: حدثني جدي أحمد بن منيع: سمعت أبا قطن يقول: ما رأيت شعبة ركع قط إلا ظننت أنه نسي ، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي. وحدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه ، سمعت أبا الوليد ، سمعت شعبة يقول: إذا كان عندي دقيق وقصب ما أبالي ما فاتني من الدنيا. [ ص: 208] حدثني عباس بن محمد ، حدثني قراد أبو نوح قال: رأى علي شعبة قميصا ، فقال: بكم اشتريت هذا ؟ فقلت: بثمانية دراهم. فقال لي: ويحك أما تتقي الله ؟! ألا اشتريت قميصا بأربعة دراهم ، وتصدقت بأربعة كان خيرا لك ؟ قلت: يا أبا بسطام ، إنا مع قوم نتجمل لهم. قال: أيش نتجمل لهم! ؟ حدثنا علي بن سهل النسائي ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن زيد ، قال: قال أيوب: الآن يقدم عليكم رجل من أهل واسط ، يقال له: شعبة ، هو فارس في الحديث ، فإذا قدم فخذوا عنه. قال حماد: فلما قدم أخذنا عنه. حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي ، حدثنا وليد بن حماد: سمعت عبد الله بن إدريس ، قال: ما جعلت بينك وبين الرجال مثل سفيان وشعبة. حدثنا ابن زنجويه ، حدثنا عبد الرزاق ، عن أبي أسامة ، قال: وافقنا من شعبة طيب نفس ، فقلنا له: حدثنا ، ولا تحدثنا إلا عن ثقة ، فقال: قوموا.