[٥] ثمّ يقول إنّه كان خطيبًا مفوّهًا وراويًا للحديث صادقًا وقد صرف جلّ عمره في طلب العلم، وليس من الذين يسعون للمال والجاه، ولكنّه يطمع في ثواب الآخرة، ثمّ يوصّي الذين يدفنونه أن يغسلوه ويكفّنوه بورق المصحف وفي ذلك كناية على تقواه وورعه، ويوصي الذين يشيّعونه ألّا يكون في تشييعهم نحيب ولكن يوصيهم بالتقوى وذكر الله وقراءة القرآن. [٥] كُنتَ خِلّ الصِّبا فلَمّا أرادَ الـ:::ـبَينَ وَافَقْتَ رأيَهُ في المُرادِ ورأيتَ الوَفاءَ للصّاحِبِ الأوْ:::وَلِ مِنْ شيمَةِ الكَريمِ الجَوادِ وَخَلَعْتَ الشّبابَ غَضّاً فَيا لَيْـ:::ـتَكَ أَبْلَيْتَهُ مَعَ الأنْدادِ فاذْهَبا خير ذاهبَينِ حقيقَيْـ:::ـنِ بِسُقْيا رَوائِحٍ وَغَوَادِ ومَراثٍ لَوْ أنّهُنّ دُمُوعٌ:::لمَحَوْنَ السّطُورَ في الإنْشادِ يمضي المعري في قصيدته ويذكر ما كان الفقيد بالنسبة له، فهو صديق الصبا وملاعب الشباب وأنّه الصاحب الوفي الذي قد ذهب في ريعان شبابه، ويصف المعري حزنه الشديد عليه ويدعو له بالسقيا على عادة العرب في الدعاء لمن يحبون. [٥] الأفكار الرئيسة في قصيدة أبو العلاء المعري يرثي فقيها ضمّت قصيدة المعري كثيرًا من الفِكَر فيها، ومن أبرزها ما يأتي: [٥] حتمية الفناء وزوال الدنيا.
[٥] ثمّ يوجّه المعري الكلام لمن يتفاخرون في الدنيا أنّ الجميع مصيره للزوال ويضرب مثلًا قوم عاد المشهورين بأجسامهم الضخمة وأبنيتهم الشاهقة، ومع ذلك فقد ماتوا جميعًا، فالدنيا إلى زوال ولا داعي للاختيال فيها والتفاخر، فربّما قد صار جزء من الأرض قبرًا لكثير من الأشخاص على تطاول الزمان، وفي ذلك تأكيد لفكرة الفناء المحتوم.
قلت: معك الحق، لا يصح أن ألوم إلا نفسي، ولا ينبغي عليَّ إلا أن أتدارك ما فاتني، هل تتصور أن البقية الباقية؟! لم أكد أقول هذه الكلمات حتى خُيِّل إليَّ كأن الصبي قد كَبِرَ فجأة في السن، وطالت قامته ووقف أمامي متحديًا ومحذرًا، مد يده في جنب صداره، فأخرج ساعةً كبيرة مستديرة تشبه الساعة العتيقة، التي كان أبي يضعها في جيب جلبابه ويخرجها منه كلما أراد أن يعرف مواقيت الصلاة، وبدأ الرجل الطويل الشامخ القامة، الذي كان قبل قليل صبيًّا غريرًا دائم الحزن والشرود، بدأ يهتف بصوت مرتفع: الحياة وقت، ولكل وقت قلب، أي له مركز ومنتصف. من أراد الحقيقة وصمم عليها استجاب لنبض هذا القلب، لزم المركز ولم ينحرف عنه، ألا يقاس الوقت بالسنين والشهور والأيام واللحظات؟ الحياة سنة ومركزها وقلبها هو أجمل شهورها، لكنك ضيعت على نفسك هذا الشهر، والحياة يوم له مركزه وقلبه ومنتصفه، لكنك ضيعت اليوم ورحت تحلم مفتوح العينين، والحياة آن أو لحظة لها مركزها وقلبها ومنتصفها، لكنك فوَّتَّ على نفسك الفرصة فلم تعشها ولم تتذوقها ولم تغترف كما ينبغي من نبعها، لكن انسَ هذا الآن، انسه وامنع أسنانك أن تعض لحمك، فها هي الحياة ما زالت تقدم لك قلبها ومركزها ونبعها المتدفق من أعماقها.
وقرأتُ (اللزوميات) فلم أجد فيها هذا الرواء، ولا ذاك الندى ولا ذيّاك العبير، ولم أر بها ظعائن الغواني تجوب تلك المغاني، كما لم أسمع فيها ألحان الأغاني، ولا أنغام المثاني، ولم ألتمس "بيض الأماني". بل وجدت فيها خطيبا ثائراً ، واعظاً موجها إلى ما يراه ويعتقده؛ فهو آمر ناهٍ، وهو متألم شاكٍ، ومتشائم باكٍ، وهو ورع ملحد، ومتزندق متعبد، وموقن مرتاب، وهو متجانس متناقض، و مقدم محجم، ومقبل مدبر معاً. إنها نفثات هذه الروح الهابطة من المحل الأرفع، ليفرض عليها القيام في هذا الجسد؛ فتغدو ثالثة السجون: أراني في الثلاثة من سـجوني فلا تسأل عن الخبر النبيــث لفـقـدي ناظــــري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث فنهاره بهيم، وليله أليم، لم نعد نشهد فيه ليلة كتلك الليلة التي كأنها "عروس من الزنج عليها قلائد من جمان". الصبي الذي كان يحمل اسمي | القبلة الأخيرة | مؤسسة هنداوي. قرأت (اللزوميات) فبدت لي بحراً زاخراً بنظرياته ومعتقداته التي تدور حول تمجيد العقل، وتتناول فيما تتناول الماورائيات، وموقفه من الأديان، وحملته على المذاهب والنحل والمعتقدات، ونقمته على الفساد الاجتماعي والسياسي، فضلاً عن معتقده الأخلاقي، ونراه قد أفرط فيها في سلبيته تُجاه الحياة، وترددت قوافيها أصداءً لنزعته التشاؤمية وتزمته الخلقي ، وتناقضه في معتقداته بعامة، وفي مسائل الدين والفلسفة بخاصة.