ولمَسَّنا الضرُّ من نَـتْـنِـها. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وبعدُ... فقد عاش سالم بنُ عبدِ الله بن عمر بن الخطاب عُـمُـراً مديداً حافلاً بالتقى... عامراً بالهدى... أعرض فيه عن زينة الدنيا وزخرفها... وأقبل خلالَه على ما يُرضي الله... فأكل من الطعام ما غلُظ... ولبس من الثياب ما خشُن... وغزا " الرومَ " مع جيوش المسلمين جُندياً... وقضى حوائجَ المسلمين ، وحنا عليهم حُـنُـوَّ الأمهات... فلما أتاه اليقين ُ سنة ستٍّ ومائة للهجرة ؛ ارتجَّت المدينةُ حزناً عليه... وتَرَك نعيُه في كل قلبٍ لوعة... وعلى كل خد دمعة... وهَبَّ الناسُ ، كلُّ الناس يشيعون جَنَازتَه ، ويشهدون مدفنه... وكان هشامُ بنُ عبد الملك يومئذٍ موجوداً في المدينة ؛ فخرج للصلاة عليه وتشييعه. يا نصر.. هذا "الزعيم" ما يعرف اليأس.. لا تحط قدامه كأس. فلما رأى تزاحمَ الناس وتدفُّقَهم ؛ هالَتْـه كثرتُهم ، وأثارت في صدره شيئاً من الحسد ، فساءَل نفسَه قائلاً: تُرى كم يخرجُ من هؤلاء الناس لو أن الخليفة مات في بلدهم هذا ؟. ثم قال " لإبراهيم بنِ هشامٍ المخزومي " واليه على المدينة: افرض على أهل المدينة أن يبعثوا أربعة آلاف رجلٍ إلى الثغور. فسُمِّي ذلك العامُ عامَ أربعة الآلاف...
دخل سالم رضي الله عنه على سليمان بن عبد الملك الخليفة، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّة، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في المجلس، فقال له رجل من أخريات الناس: ما استطاع خالُك أن يلبس ثيابًا فاخرة أحسن من هذه، يدخل فيها على أمير المؤمنين؟! وكان على المتكلم ثياب سَرِيَّةٌ، لها قيمة، فقال له عمر بن عبد العزيز: "ما رأيتُ هذه الثيابَ التي على خالي وَضَعَتْهُ في مكانِك، ولا رأيتُ ثيابَك هذه رَفَعَتْكَ إلى مكان خالي ذاك".
فالتفت الحجاجُ إلى سالمٍ وقال: هؤلاء بغاةٌ مفسدون في الأرض ؛ مستبيحون لما حرَّم الله من الدماء. ثم أعطاه سيفه ، وأشار إلى أولهم وقال: عليك به... فقم إليه واضرِبْ عنقه... فأخذ سالم السيف من يد الحجاج ، ومضى إلى الرجل... وقد شخصت أبصار القوم نحوه تنظر ماذا يفعل ؟!. فلما وقف على الرجل قال له: أمسلم أنت ؟. فقال: نعم... ولكن ما أنت وهذا السؤال ؟... امض لإنفاذ ما أمرت به. فقال له سالم: وهل صليت الصبح ؟. فقال الرجل: قلت لك إني مسلم ، ثم تسألني: إن كنت صليت الصبح!!... وهل تظن أن هناك مسلماً لا يصلي ؟. فقال سالم: أسألك أصليت صبح هذا اليوم ؟. فقال الرجل: هداك الله ، قلت لك نعم... وسألتك أن تنفذ ما أمرك به هذا الظالم ، وإلا عرضت نفسك لسخطه. سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب العدوي. فرجع سالم إلى الحجاج ، ورمى السيف بين يديه وقال: إن الرجل يقر بأنه مسلم ، ويقول: إنه صلى صبح هذا اليوم ، وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله). وإني لا أقتل رجلاً دخل في ذمة الله عز وجل. فقال له الحجاج مغضباً: إننا لا نقتله على ترك صلاة الصبح... وإنما نقتله لأنه ممن أعان على قتل الخليفة عثمان بن عفان. إن في الناس من هو أولى مني ومنك بدم عثمان.