تفسير قوله تعالى: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾ ♦ الآية: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ﴾. ♦ السورة ورقم الآية: النمل (22). ♦ الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي: ﴿ فمكث غير بعيدٍ ﴾ لم يطل الوقت حتى جاء الهدهد وقال لسليمان: ﴿ أحطتُ بما لم تحط به ﴾ علمتُ ما لم تعلمه ﴿ وجئتك من سبأ ﴾ وهي مدينةٌ باليمن ﴿ بنبأ يقين ﴾ بخبرٍ لا شكَّ فيه.
[١] أمّا الطّباق فقد اعتمد البلاغيّون وكُتب البلاغة على تعريف واحد ولم يدخل على هذا التعريف أيّ تعديل أو شرح، وهو الجمع بين الضدّين أو المعنيين المُتقابلين في الجملة، مثال ذلك جملة خير المال عين ساهرة لعين نائمة ، إنّ الطّباق في الجملة السابقة هو طباق إيجاب مُشتَمل على الشيء وضدّه، وذلك بين كلمة ساهرة، وعكسها كلمة نائمة [٣] ، وبهذه التّعاريف اتّضح الفرق بين ما هو الطّباق والجناس، فالجناس يُعدّ من المُحسّنات اللفظيّة التي تُركّز على تحسين اللفظ بالكلمة الواحدة وحروفها المُتقاربة، أمّا الطّباق فهو يُعنى بتحسين المعنى من خلال الكلمة وعكسها.
ولقد بينت الدراسات الحديثة أن الهدهد أكفأ من الحمام في استخدامات النقل والاتصال، فهو أسرع طيراناً ولا يحتاج للجماعة في طيرانه وقوة دفاعه عن نفسه أكفأ وتحمله للجوع والعطش أكثر فضلاً عن ذكاءه ومكره المشهور بهما. لذلك كان الاختيار الأفضل للهدهد من بين بقية الطيور فهو يحمل خصائص فريدة من نوعها. وهنا جمعت الصفات بشكل نقاط ليَسهُل تذكرها وحِفظها. طائر غير جارح وغير مخيف. سريع جداً في الطيران والعدو. يتحمل الظروف الصعبة. ذكي ومراوغ. قابلية تخفي ودفاع عن النفس بشكل رائع وسلمي وباستخدام عدة طرق مثل أخذ حمام رملي ومن ثم الطيران قرب الأرض كي لا يميزه الناظر عن شكل الأرض فلا يعرف اتجاهه أو باستخدام تقنية رش رذاذ أسود زيتي برائحة كريهة من غدة بقاعدة الذيل تبعد أي متطفل كما بينا آنفاً. لا يحتاج للجماعة في طيرانه وهجرته مما يجعله صعب المراقبة في معرفة الاتجاه. له قابلية ملاحية متميزة في معرفة الاتجاهات لا تقل عن الحمام. له قابلية عجيبة في طلب الماء والكشف عن تواجده تحت الأرض. ولعل تلك المميزات هي التي أهلته ليكون بتلك المنزلة والثقة التي أوليت له من قبل سيدنا سليمان عليه السلام، على أن ذلك قد يوحي بأن ذلك الهدهد كان من نوع خاص وتم تربيته وتدريبه بعناية فائقة، والله تعالى أعلم.
{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} إذا كانت جريمته تستوجب العذاب، {أَوْ لأذْبَحَنَّهُ} إذا كانت تستوجب الإعدام {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي بحجةٍ قويةٍ تبرر غيابه، حيث يجب عليه تقديم الحجة الواضحة للدفاع عن نفسه. {فَمَكَثَ} الهدهد {غَيْرَ بَعِيدٍ} من الزمان، فلم يمض وقت طويل على غيابه {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} من معلومات عن بعض مواقع السلطة التي قد تحتاج إلى اتخاذ موقفٍ حازمٍ منها من حيث الدعوة إلى الإيمان بالله، والسيطرة عليها، في ما تمثله من مركز قوّةٍ ضد سلطة الحق {وَجِئْتُكَ مِن سَبَأ بِنَبَأ يَقِينٍ} فقد ذهبت إلى اليمن ودخلت إلى عاصمتها سبأ واطلعت على طبيعة الناس فيها ونوعية الحكم المسيطر عليها، وجئتك بالخبر المفصل الواضح الذي يرتكز على اليقين. {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} من لوازم السلطة التي تركز موقع القوّة الكبير لها في حياة الناس بحيث تستطيع أن تفرض إرادتها عليهم بجميع الوسائل الضاغطة في أكثر من صعيد، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} في ما تمثله الكلمة من معنى السيطرة والعلوِّ في القوة والدرجة بحيث تطلّ على الساحة من أعلى مواقعها.
وقد يكون من كلام الله كما درج عليه الأسلوب القرآني من الامتداد مع الفكرة عند الحديث عن بعض مفرداتها بما تقتضيه طبيعة الأمور في تفاصيلها الواقعية. {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فقد كان الموقف الذي يقفه الهدهد، هو موقف المحاكمة التي يحتاج المتهم فيها إلى دليلٍ على صدق دفاعه، ولم يقدم الهدهد في كلامه هذا إلا الدعوى من دون بينةٍ. سليمان يكلف الهدهد حمل رسالته {اذْهَب بِّكِتَابِي هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} واطرحه بينهم، {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي ابتعد عنهم، {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} في ما يخاطب به بعضهم البعض مما يعلّقون به على الكتاب، بعد مناقشته فيما بينهم. وهكذا كان، فقد فعل الهدهد ما أمره به سليمان، وألقى الكتاب إليهم بشكل مفاجىء، ولم يتبينوا له مصدراً. وكانت بلقيس ـ ملكة سبأ ـ هي التي تسلمت الكتاب وقرأته، فجمعت قومها للتحدث معهم في هذا الأمر العجيب. ـــــــــــــــــــــــ (1) مفردات الراغب، ص:397. (2) مجمع البيان، م:4، ص:284.
* * * معاني المفردات {وَتَفَقَّدَ}: جاء في مفردات الراغب: التفقّد التعّهد لكن حقيقة التفقّد تعرُّفُ فقدان الشيء والتعهد تعرُّفُ العهد المتقدّم[1]. {سَبَأ}: اسم رجل تنسب إليه قبائل باليمن. {بِنَبأ}: النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن. {الْخَبْءَ}: والخبء، على ما جاء في مجمع البيان: المخبوء، وهو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه، وهو مصدر وصف به، يقال: خبأته أخبئه خبأ، وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة[2]. وبذلك يكون التعبير وارداً على سبيل الاستعارة بلحاظ اختباء الأشياء كلها ـ قبل أن توجد ـ في قلب العدم الذي لا يحيط به أحد إلا الله. {تَوَلَّ}: تنحَّ. {مَاذَا يَرْجِعُونَ}: ماذا يدور بينهم. سليمان يسأل عن الهدهد ثم يحاوره {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} كما يتفقد القائد جنوده ليتعرف الغائب منهم والحاضر، ولفت انتباهه غياب الهدهد عن نظره فلم يره، {فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ} هل حجبه شيء عن عيني {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ} من دون إذن مني. فهو يجب عليه التقيد بنظام الحضور الدائم أمامي ما لم آذن له، لما قد تفرضه الحاجة من وجوده، أو لما يقتضيه نظام الطاعة.