ويتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة والفضل وهو العطية لكن تقدم في أوائل الكتاب وسيجيء في قوله تعالى: ﴿مع الذين أنعم الله عليهم﴾ النساء: 69، أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية، وعلى ذلك فالمعنى: أن الله يتولى أمرهم ويخصهم بعطية منه. وأما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل، والنعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فإن الأجر يؤذن بالاستحقاق، وقد عرفت أن هذه الفقرات أعني قوله: عند ربهم يرزقون وقوله: فرحين بما إلخ وقوله: ﴿يستبشرون بنعمة﴾ إلخ، وقوله: ﴿وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ مآلها إلى حقيقة واحدة.
۞ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) { يستبشرون بنعمة من الله وفضل} أي: يهنىء بعضهم بعضا، بأعظم مهنأ به، وهو: نعمة ربهم، وفضله، وإحسانه، { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} بل ينميه ويشكره، ويزيده من فضله، ما لا يصل إليه سعيهم. وفي هذه الآيات إثبات نعيم البرزخ، وأن الشهداء في أعلى مكان عند ربهم، وفيه تلاقي أرواح أهل الخير، وزيارة بعضهم بعضا، وتبشير بعضهم بعضا.
(والكتاب المنير) أي: الواضح الجلي. والزبور والكتاب واحد في الأصل؛ وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين، فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة. حقيقة القربان عند أهل الكتاب وأنواعه هنا فائدة تتعلق بقربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم: القربان معناه لغة: ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته، وكانت ذبائح العبرانيين عجيبة جداً، وكان المستعمل لهذه الذبيحة بتعيين الله: الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام، وكانت الذبائح على نوعين عامين: الأول: كانت تقرب لتكفير الخطايا. الثاني: كانت تقرب شكراً لله على نعمة وبركاته. ثم قال صاحب كتاب (مرشد الطالبين): فالذبيحة اليومية عند أهل الكتاب كانت مشهورة جداً، كان عليهم أن يتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى يومياً في الصباح والمساء بهذه الذبائح. يستبشرون بنعمة من الله وفضل. الذبيحة اليومية عندهم خروف ليس فيه عيب، يقدم كفارة للخطايا، وذلك مرتان: صباحاً ومساءً طول مدة السنة، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلاً، والتي في المساء عن خطاياهم نهاراً، وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم. ولهذا ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه، ثم يذبح ويقرب وقودا، وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب، وأما في يوم السبت فكانت تتضاعف الذبيحة، ويقرب في كل دفعة خروفان.
الوجه الخامس: أن المبالغة لتأكيد معنىً بديع؛ وذلك لأن جملة (( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، بمعنى: أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده لغير ذنب. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، ولتصويره بصورة يستحيل صدور الظلم عنها، كما يعبر عن ترك الإفادة عن الأعمال بإضاعتها، فصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى ولإبراز ما ذكر من التعبير بغير ذنب في صورة مبالغة في الظلم. (( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) فالله سبحانه وتعالى لو عذب الناس بدون ذنب يرتكبونه هل يكون ظلاماً للعبيد؟! هذه صيغة منفرة ينزه الله سبحانه وتعالى عنها؛ بل إنما يعذبهم بسبب ما اقترفوه من الذنوب. تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا... ) تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك... ) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184]. إعراب قوله تعالى: يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الآية 171 سورة آل عمران. (فإن كذبوك) أي: بعد بطلان عذرهم المذكور. (فقد كذب رسل من قبلك) فلا تحزن وتسلَّ. (جاءوا بالبينات والزبر)، الزبر: جمع زبور أي: الكتب الموحاة منه تعالى.
- لمَّا قُتِلَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرو بنِ حزمٍ يومَ أُحُدٍ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يا جابرُ ألا أخبرُكَ ما قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لأبيكَ قال بلَى قالَ ما كلَّمَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أحدًا إلَّا من وراءِ حجابٍ وَكَلَّمَ أباكَ كفاحًا فقالَ يا عبدي تمنَّ عليَّ أُعْطِكَ قالَ يا ربِّ تحييني فأُقتَلُ فيكَ ثانيةً قالَ إنَّهُ قد سبقَ منِّي أنَّهم إليها لا يُرجَعونَ.