ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو. ويجوز أن تكون الإشارة بقوله كذلك لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف ، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجا لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون [ ص: 354] محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة ، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة ، لأن التعلق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور. وقوله لعلكم تتفكرون غاية هذا البيان وحكمته ، والقول في لعل تقدم. يسألونك ماذا ينفقون قل العفو. وقوله في الدنيا والآخرة يتعلق بتتفكرون لا بيبين ، لأن البيان واقع في الدنيا فقط. والمعنى: ليحصل لكم فكر أي علم في شئون الدنيا والآخرة ، وما سوى هذا تكلف.
ما لعباد عليك إمارة أمنت وهذا تحملين طليق! ف "تحملين" من صلة"هذا". يسالونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم. فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟ والآخر من وجهي الرفع أن تكون" ماذا " بمعنى أي شيء ، فيرفع" ماذا " ، [ ص: 293] وإن كان قوله: " ينفقون " واقعا عليه ، إذ كان العامل فيه ، وهو" ينفقون " ، لا يصلح تقديمه قبله ، وذلك أن الاستفهام لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام ، كما قال الشاعر: ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل وكما قال الآخر: وقالوا تعرفها المنازل من منى وما كل من يغشى منى أنا عارف فرفع "كل" ولم ينصبه"بعارف" ، إذ كان معنى قوله: "وما كل من يغشى منى أنا عارف" جحود معرفة من يغشى منى فصار في معنى ما أحد. وهذه الآية [ نزلت] - فيما ذكر - قبل أن يفرض الله زكاة الأموال. ذكر من قال ذلك: 4068 - حدثني موسى بن هارون ، قال: حدثنا عمرو بن حماد ، قال: حدثنا [ ص: 294] أسباط ، عن السدي: " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " ، قال: يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة ، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة. 4069 - حدثنا القاسم ، قال: حدثنا الحسين ، قال: حدثني حجاج ، قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم ؟ فنزلت: " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل " ، فذلك النفقة في التطوع ، والزكاة سوى ذلك كله قال: وقال مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك: " ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما.
واللام في لكم للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب ، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين.
لقد جعل الله الجواب منه لعباده مباشرة. وإن كان الذى سيبلغ الجواب هو رسوله-صلى الله عليه وسلم-، وهذه لها قصة: لقد سألوا رسول الله: أقريب ربك فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ لأن عادة البعيد أن يُنادى، أما القريب فيناجى، ولكى يبين لهم القرب، حذف كلمة (قل)، فجاء قول الحق: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ»، وما فائدة ذلك القرب؟ إن الحق يقول: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ»، ولكن ما الشروط اللازمة لذلك؟.. لقد قال الحق: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى» ونعرف أن فيه فرقًا بين (عبيد) و(عباد)، صحيح أن مفرد كل منهما (عبد)، لكن هناك (عبيد) و(عباد). يسألونك ماذا ينفقون قل. وكل من فى الأرض عبيد الله، ولكن ليس كل من فى الأرض عباداً لله، لماذا؟ لأن العبيد هم الذين يُقهرون فى الوجود كغيرهم بأشياء، وهناك من يختارون التمرد على الحق، لقد أخذوا اختيارهم تمرداً، لكن العباد هم الذين اختاروا الانقياد لله فى كل الأمور، إنهم منقادون مع الجميع فى أن واحدًا لا يتحكم متى يُولد، ولا متى يموت. ولا كيف يُوجد، لكن العباد يمتازون بأن الأمر الذى جعل الله لهم فيه اختياراً قالوا: صحيح يا رب أنت جعلت لنا الاختيار، وقد اخترنا منهجك، ولم نترك هوانا ليحكم فينا، أنت قلت سبحانك: (افعل كذا) و(لا تفعل كذا).
قال السدي: نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة. قال ابن عطية: ووهم المهدوي على السدي في هذا، فنسب إليه أنه قال: إن الآية في الزكاة المفروضة ثم نسخ منها الوالدان. وقال ابن جريج وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها، وهي مبينة لمصارف صدقة التطوع، فواجب على الرجل الغني أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله، من طعام وكسوة وغير ذلك. قال مالك، ليس عليه أن يزوج أباه، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه، كانت أمه أو أجنبية، وإنما قال مالك: ليس عليه أن يزوج أباه لأنه رآه يستغني عن التزويج غالبا، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوجه، ولولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. غلاء الأسعار وتداعيات "كورونا" يقلصان موائد الرحمان بالدار البيضاء. فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو، وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر، لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام. الرابعة -: قوله تعالى: { مَا أَنْفَقْتُمْ} "ما" في موضع نصب بـ " أنفقتم" وكذا " وما تنفقوا" وهو شرط والجواب { فَلِلْوَالِدَيْنِ}، وكذا { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} شرط، وجوابه "فإن الله به عليم" وقد مضى القول في اليتيم والمسكين وابن السبيل.
۞ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عمر أنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة: ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير [ ومنافع للناس]) فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في النساء: ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) [ النساء: 43] ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. أسلوب الحكيم - طريق الإسلام. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر ، فقرئت عليه ، فلما بلغ: ( فهل أنتم منتهون) [ المائدة: 91] ؟ قال عمر: انتهينا ، انتهينا. وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق.