وهذه الآية من ملاحم القرآن العظيمة، ولو لم يتحقق النصر للمسلمين آنذاك لطعن المشركون وغيرهم في صدق الرسالة، وأكثر من هذا فقد بين تعالى أن الوليد بن المغيرة سيضرب على أنفه وتكون فيه سمة ظاهرة كما قال تعالى: (سنسمه على الخرطوم) القلم 16. وفي الآية مباحث: المبحث الأول: سبب نزول الآية كما بينت أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وذلك قبل الحدث المشار إليه فيها. وقد تحقق ذلك بالفعل وضرب الوليد على أنفه وأصبح ذو علامة فارقة وهذا هو المقصود من قوله: [سنسمه على الخرطوم]. سنسمه على الخرطوم فيمن نزلت. المبحث الثاني: في لفظ الخرطوم بدلاً من الأنف إستهانة ظاهرة لأنه لا يكون إلا في الفيل والخنزير، فالتعبير بهذا اللفظ يدل على الإذلال وذهب آخرون إلى أن هذا سيحصل في الآخرة. المبحث الثالث: قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل، وقال الطبري: نبين أمره تبياناً واضحاً حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم، وقيل: المعنى سنلحق به عاراً حتى يكون كمن وسم على أنفه لأن السمة لا يمحى أثرها، كما قال جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي******وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل وقيل: المعنى سنحده على شرب الخمر والخرطوم يعني الخمر وجمعه خراطيم كما قال الشاعر: تظل يومك في لهو وفي طرب******وأنت بالليل شراب الخراطيم وكل هذا الذي ذكروه وجوهاً لتفسير الآية والصواب ما قدمنا.
وأعظم الإهانة إهانة الوجه. وكذلك كانت الاستهانة به في طاعة الله سببا لخيرة الأبد والتحريم له على النار; فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود; حسب ما ثبت في الصحيح.
فإن قيل: عند تشبيه القرآن الكريم بعض الصفات السلبية لدى الناس ببعض صفات الحيوانات ألا يعتبر هذا إهانة للحيوانات؟ أقول: إن الصفات التي تكون في الحيوانات هي صفات مكملة لها وطبيعة فطرية راسخة فيها، أما في الإنسان فقد تكون نقصاً لأن المشبه لا يستلزم الأخذ بمراتب المشبه به، ألم تر إلى الذي يضل الطريق ينادى من قبل الآخرين [بالأعمى] ويعتبر ذلك نقص فيه أما الأعمى الحقيقي فلا يعتبر فقد البصر نقص فيه وهذا يجري في جميع المراحل السلبية التي تستعمل في التشبيه. فقوله تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) لقمان 19. معنى سنسمه على الخرطوم. ليس فيه إهانة للحمير لأن صوتها كمال للمهمة التي خلقت من أجلها، أما إرتفاع صوت الإنسان من غير سبب يعتبر نقص فيه فلهذا السبب كان التشبيه، وخير دليل على ذلك قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) الجمعة 5. ففي هذه الآية الكريمة قد شبه تعالى الذين حملوا التوراة ولم يعملوا بها بالحمار الذي يحمل الكتب وهو لا يدري ما بداخلها وليس من العقل أن نكلف الحمار تلك المهمة، ولكن النقص في من ضرب لهم المثل، وإلا كيف يصف تعالى الحمير بأنها زينة في قوله: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون) النحل 8.