وما زال هذا المصطلح يستخدم حتى في عصرنا هذا علامةً على بعض الحروب التي يظهر فيها الدافع الديني، وإن كان أهلها يحرصون الآن على إخفاء مثل هذا الدافع في حروبهم المعاصرة عكس ما كان قديماً. والله أعلم.
لقد شاء الله واختار، وقضى؛ أن يخلق البشر أحراراً، لا سلطان لأحد عليهم، وزودهم بالعقل؛ ليميزوا بين الشر والخير فقال تعالى: (وَهَدَيناه النجدين) البلد 10. أي هديناه الطريقين، طريق الخير، وطريق الشر، وقال أيضاً: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) الإنسان 3. أي بينا له طريق الجنة، وعرفناه سبيله، وهو بالخيار، إما أن يكون شاكراً للنعم الربانية، أو يكون كافراً لها. الحرية الكاملة للبشر في اختيار ما يريدون وأعطاهم الحرية الكاملة، في اختيار الطريق الذي يريدون سلوكه، واختيار منهج الحياة الذي يناسبهم، واختيار الدين الذي يعجبهم، فإما أن يؤمنوا بالله الواحد الأحد، أو يكفروا، أو يشركوا معه آلهة أخرى. ص260 - كتاب الحملة الصليبية على العالم الإسلامي والعالم - من هم الصليبيون الجدد - المكتبة الشاملة الحديثة. ومن رحمته تعالى بالخلق، ولمعرفته بطبيعة خلقه، التي تحتاج إلى من يساعدهم في الاستدلال على طريق الهدى، والإيمان.. أرسل لهم الرسل تترا؛ ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. ولكن الله تعالى، شاء أن يكون الناس مؤمنين وكافرين فقال: ﴿هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرࣱ وَمِنكُم مُّؤۡمِنࣱۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرٌ﴾ التغابن 2. إذاً! سنة الكون الأبدية، الأزلية، الثابتة، الدائمة، التي لا تتغير ولا تتبدل.. أن يتواجد على سطح الأرض، مؤمنون وكافرون، وأن يكون بينهم صراع مستمر، لا يهدأ ولا يفتر، وهذا مصداق قوله تعالى: (وَلَولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بَعضهُم ببعضٍ لَفَسَدَتِ الأرضُ، ولكنَّ اللهَ ذو فضلٍ على العالمين) البقرة 251.
لا دولة ولا حضارة تحتكر الأخلاق التي هي ميراثٌ إنساني ووائل حلّاق من أكثر المتحدّثين الآنفُ ذكرهم من حيث تعمّقه في هذا الموضوع والتأكيد على الأخلاق في الإطار الإسلامي، فهو كاتبٌ ومفكّرٌ رصين، وباحث، وليس دوغمائياً عشوائياً يُطلق التصريحات والمواعظ على عواهنها. كتابه "الدولة المستحيلة" غنيّ بالمراجعات الفكريّة والدقّة والأطروحات المثيرة، وخصوصاً فيما يتعلّق بأنّ فكرة الدولة الإسلامية غير ممكنة لأنها تتعارض مع مفهوم الدولة الحديث، ذي الأسس العلمانية، بينما الشريعة الإسلامية هي مصدر أخلاق، وليست اِطاراً سياسيّاً يؤدّي إلى دولة كتلك التي استُحدثت في الغرب وتمَّ استنساخها في مناطق كثيرة من العالم، ولا سيما العالم العربي الذي كان أغلبه تحت الحُكم العثماني حتى القرن القرن العشرين. آخر معقل للصليبيين في بلاد الشام ومن هم الصليبيين و ما هي الحروب الصليبية - موقع نظرتي. ما سبق يحيلني إلى فكرتين متناقضتين، أوّلهما أنّه من اللافت حقّاً للنظر أنّ هناك نماذجَ حُكم في التاريخ الإسلامي القديم يتجلّى فيها دور الأخلاق في الحُكم، وخصوصاً تجاه مَن عُرفوا بأهل الذمّة، أي اليهود والمسيحيين. فهؤلاء عاشوا في كنف الخلافة الإسلاميّة، وتمَّ وضع ضوابط تنظّم حياتهم، وقد وُفِّقَ كثيرٌ منهم وازدهروا تحت ظلِّ حُكم إسلامي تضبطه الشريعة الإسلامية، وتنظّم العلاقات بين الناس على أُسُس العدل.
ونعتقد ان هذا الامر يمكن ان يتكرر لو تمكن المسلمون من وضع الهجمة الصليبية الجديدة في اطارها الصحيح كما فعل اجدادنا الاوائل، الذين لم ينتصروا الا بعد ان استطاعوا فهم طبيعه هذه الهجمة وطبيعة الرد المطلوب عليها. فالبرغم من ان نظرة الاوربيين للحملات الصليبية الأولى كانت نظرة دينية لاسترجاع القبر المقدس من ايدى المسلمين، الا انه في المقابل كان المؤرخون المسلمون الذين كتبوا عن الحروب الصليبية- في بدايتها- يرونها حملات عسكرية توسعية اقتصادية ولم يربطوها أبدا بالدين المسيحي، كما هو الوضع الآن. غير ان الامر اختلف كلياً مع ظهور عماد الدين زنكي الذي بدأ حملة مضادة لمواجهة الصليبيين، واستعيدت من جديد قيم الجهاد وأفكاره لتجميع المسلمين في مواجهة الصليبيين، وتحولت الحرب لدى المسلمين من علمانية للتحرير والدفاع إلى حرب ممزوجة بالكرامات الدينية، وتصاعدت الوتيرة الدينية للحرب بمجيء محمود نور الدين زنكي بعد مقتل أبيه عماد، فقد كان محمود بخلاف أبيه متديناً (1). ونعتقد ان مواجهة الصليبيون الجدد يكون من خلال وضع هذه الهجمه في اطارها الصحيح من حيث اهدافها وطبيعتها، وكيفية مواجهتها وهذا ما حاولناه في هذا الكتاب.