وأخبرنا سبحانه أيضاً عن بعض عباده الصالحين من أهل الكتاب، كيف تفيض أعينهم بالدموع، إذا تلي عليهم القرآن الكريم، قال تعالى: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} (المائدة:83). فإذا رأى متدبر القرآن، كيف يصف الله القرآن الكريم بأنه تقشعر منه جلود المؤمنين، وتلين قلوبهم له، وكيف وصف سبحانه سلسلة الأنبياء، وصالحي أهل الكتاب إذا استعبروا، وذرفت عيونهم خشية لكلام الله، أدرك أن هذا القرآن أنجع وسيلة تهز القلوب، وتطير بها عن منحدرات القسوة، وكهوف الرين. على أن ذكر الله تعالى بتلاوة القرآن وتدبره لا تلين القلب فحسب، بل تجعل ذلك القلب أيضاً مطمئناً خاشعاً لله سبحانه، قال عز من قائل: { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد:28). ختاماً، فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي). وفي "مسند البزار " عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربعة من الشقاء: جمود العين ، وقساء القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا).
ومن حكمته سبحانه أن جعل في النصوص الشرعية مواضع مشتبهة، ومكن الشيطان من الإغواء كوناً وقدراً، فيلقي الشيطان أمام قلوب الناس لذائذ الشبهات، وكلاليب الحيل والمكايد. فلا يصبر ويُسَلِّم للنصوص، ويترك مواضع الاشتباه إلا من رقت قلوبهم بالإيمان. ولا يطيش عقله أمام هذه النصوص، فيتخذها تُكأة لتقصيره إلا من قسا قلبه، قال تعالى: { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم} (الحج:53). وقسوة القلب ليست مجرد سبب للمعصية -كما يظن كثير من الناس- بل قد تكون نتيجة وعقوبة من الله على المعصية ذاتها، فيعاقب الله العبد إذا عصاه بأن يجعل قلبه قاسياً، كما قال تعالى: { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} (المائدة:13)، وهكذا، فإن الله يعاقب على قسوة القلب، إذا لم يداوها المرء بمزيد من قسوة القلب، كما هو صريح الآية الكريمة الآنفة الذكر. ولا يختلف مسلمان في أن قسوة القلب هي نتيجة طبيعية للمعاصي والخطايا بشكل عام، غير أن ثمة عاملاً له خصوصية في إنتاج قسوة القلب، وهو: بُعْدُ العهد عن ذكر الله سبحانه. وقد جاءت الإشارة في كتاب الله إلى هذه العلاقة بين بُعد العهد عن ذكر الله وقسوة القلب، يقول سبحانه: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} (الحديد:16) فطول الأمد، وبُعْدُ العهد عن كتاب الله، أورثهم قسوة قلوبهم، وتنبيه القرآن لهذه الظاهرة الواقعة في الأمم السابقة، ليس مجرد خبر تاريخي مضى وانقضى، وإنما ذكره سبحانه لنتحاشاه، ونستفيد من هذا الدرس.