وفي الحديث القدسي: "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق وعرَّفتهم بي فبي عرفوني" فإلى ذلك خُلِقتَ أيها الإنسان، ومن أجل التمتُّع بذلك الكنز أوجدك ربك، ووهبك ما وهبك من فكر وإدراك وملكات. وأنت في أحسن تقويم لتستطيع السمو بنفسك سمواً لا يدانيك فيه مخلوق. فإن أنت أقبلت على ربِّك وتعرَّفت إليه فقد فزتَ بالسعادة الأبدية والحياة السرمدية. وإن أنت أعرضتَ فقد خسرت نفسك وما أعدَّه لك ربك من عطاء في الجنان وأصبحت مع أسفل السافلين من المخلوقات، قال تعالى: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ ولتفصيل معنى هذه الآية الكريمة نقول على وجه المثال: هب أن ضبعاً وقع في قبضة إنسان، فانظر كيف يجد هذا الإنسان الضبع منحطاً دنيئاً لما ينبعث عنه من رائحة منتنة ولما كان يصدر عنه من الأذى. ثم انظر كيف يرى هذا الضبع نفسه في يد ذلك الإنسان مُحتقَراً وضيعاً. ولقد خلقنا الانسان في احسن تقويم - YouTube. كذلك حال المعرض بعد موته، وفي القيامة حيث تظهر أعماله المنحطة، وتنكشف حقيقته الدنيئة المنتنة، فيراه الناس حقيراً سافلاً، ويجد نفسه خبيثاً منتناً فيتألم من ذلك ويتقزز. ويشمئز منه الناس ويتقززون، ويشتد عليه الأمر ويسوءه هذا الحال فلا يجد لنفسه إلا النار، فهو يطلب النار بحريقها ليمحو بها نتن رائحته وليداوي بها خبيث مرضه.
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) وقوله: ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ثم رددناه إلى أرذل العمر. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن عكرِمة، عن ابن عباس ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، عن عمرو، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) يقول: يرّد إلى أرذل العمر، كبر حتى ذهب عقله، وهم نفر رُدّوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم، فأنـزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم. إعراب القرآن الكريم: إعراب لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبي رجاء، قال: سُئل عكرِمة، عن قوله: ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: ردّوا إلى أرذل العمر. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، في قوله: ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: إلى أرذل العمر.
وإنه وهذا حاله لا يطمع في الجنة حيث يرى نفسه بأنه غير لائق بها ولا جديراً بأن يكون من أهلها الأطهار الأصحاء. وتمثيلاً لحال ذلك المعرض نقول: هب أن امرأة خلقها الله على أبدع صورة وأجمل هيئة، ثم إنها أصابها المرض فظهرت في وجهها دمامل منتنة تقيَّحت وراح صديدها المنتن يسري، فهل تطمع هذه المرأة بعد أن أصبحت فيما أصبحت به أن تذهب إلى مجتمع فيه النساء الصحيحات؟ وهل تجدها تحب أن تجلس بين الناس؟ أعتقد لا... لأنك تجدها خجلى بعلَّتها، متقززة من نفسها لا تحب إلاَّ أن تكون في مستشفى تُداوى به، وهي ممقوتة في نظر نفسها وفي نظر غيرها. اكتشف أشهر فيديوهات ولقد خلقنا الانسان | TikTok. وكذلك حال كل معرض عن أمر ربه مخالف لخالقه، فهو يُردُّ أسفل سافلين. وتمتد به هذه السفالة ويستمر عليه ذلك الحال إلى أن يُصار به إلى النار حيث المعالجة والمداواة. أما المؤمن الذي قدَّم صالح الأعمال ولم يلوِّث نفسه بدرن المعاصي والآثام فتستمر عليه النعمة، ويدوم له الإكرام الإلهي فينزل بعد الموت في حالة أرقى ونعمة أعظم وأسمى، قال تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ فهم في حياة أسعد من حياتهم الأولى. (فلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ): أي غير ممتن عليهم به، بل يكرمهم ربهم بما يكرمهم مكافأة على ما قدَّموه من العمل الصالح وجزاءً على ما أسلفوه من الإحسان.
وإذْ كان ذلك كذلك، وكان القوم للنار- التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة- مُنكرين، وكانوا لأهل الهِرَم والخَرَف من بعد الشباب والجَلَد شاهدين، علم أنه إنما احتجّ عليهم بما كانوا له مُعاينين، من تصريفه خلقه، ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجلد، إلى الهِرَم والضعف وفناء العمر، وحدوث الخَرَف.