* * * فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام ؟ قيل: وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله " كافة " من صفة " السلم " ، ويكون تأويله: ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئًا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به. وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك. 4016 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: " ادخلوا في السلم كافة " ، قال: نـزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو (65) وقيس بن زيد- كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه، فدعنا فلنُسبِت فيه! يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان. وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل! فنـزلت: " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان " (66) * * * فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده. * * * وقال آخرون: بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم: " ادخلوا فيه " بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام.
ففي قوله: { لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان} تمثيل مبني على تشبيه حالة محسوسة بحالة معقولة إذ لا يعرف السامعون للشيطان خطوات حتى ينهوا على اتباعها. وفيه تشبيه وسوسة الشيطان في نفوس الذين جاءوا بالإفك بالمشي. { وخطْوات} جمع خطوة بضم الخاء. قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير بسكون الطاء كما هي في المفرد فهو جمع سلامة. وقرأه من عداهم بضم الطاء لأن تحريك العين الساكنة أو الواقعة بعد فاء الاسم المضمومة أو المكسورة جائز كثير. والخطوة بضم الخاء: اسم لنقل الماشي إحدى قدميه التي كانت متأخرة عن القدم الأخرى وجعلها متقدمة عليها. وتقدم عند قوله: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان} في سورة البقرة ( 168). صحيفة تواصل الالكترونية. و ( مَن) شرطية ولذلك وقع فعل { يتبع} مجزوماً باتفاق القراء. وجملة: { فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} جواب الشرط ، والرابط هو مفعول { يأمر} المحذوف لقصد العموم فإن عمومه يشمل فاعل فعل الشرط فبذلك يحصل الربط بين جملة الشرط وجملة الجواب. وضميرا { فإنه يأمر} عائدان إلى الشيطان. والمعنى: ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفحشاء والمنكر لأن الشيطان يأمر الناس بالفحشاء والمنكر ، أي بفعلهما: فمن يتبع خطوات الشيطان يقع في الفحشاء والمنكر لأنه من أفراد العموم.
بذلك: اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته. (68) وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام. * * * وقد بينت معنى " الخطوات " بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى ، فكرهت إعادته في هذا المكان. (69) ------------------- الهوامش: (61) ديوانه: 16 من معلقته النبيلة. والضمير في "قلتما" للساعيان في الصلح وهما الحارث ابن عوف وهرم بن سنان ، وذلك في حرب عبس وذبيان. وقوله: "واسعًا" أي: قد استقر الأمرواطمأنت النفوس فاتسع للناس فيه ما لا يتسع لهم في زمن الحرب. يا ايها الذين امنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان. وكان الحارث وهرم قد حملا الحمالة في أموالهما ، ليصطلح الناس. (62) من أبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي وتروى لغيره.
ولما كان الشيطان خبيثاً في إغوائه، ماكراً في إضلاله، يستعمل الأيمان الكاذبة، والمقاييس الفاسدة، والمداخل المحببة إلى النفوس، مع خبرة عجيبة بمكامن ضعف الإنسان، وتدرج مذهل للإيقاع به خطوة خطوة، بهمة لا تعرف الكلل، وصبر لا يعرف الملل، فهو يوسوس ويسول، ويخوف ويزين، وينسي ويمني؛ حتى يوقع العبد في شراكه، ثم يحكم عليه نصب شباكه، فلا يستطيع منه فكاكا إلا أن يشاء الله.
وكما هو واضح: فالآيتان الأوليان منها وردتا في معرض الحديث عن الأطعمة وتحري الحلال كسباً وأكلاً، والتخويف من الحرام كسباً وأكلاً، لأن الشيطان أكثر ما يزين للناس أكل ما حرم الله وشرب ما حرم الله من الخمور والمسكرات والمخدرات والدخان، وكذلك كسب ما حرم الله من الربا والرشوة، فتارة يخوفهم من الجوع والفقر، وتارة يمنيهم بالسعة والغنى والسعادة ونيل الشهوات والمباهج والملذات. إعراب قوله تعالى: ياأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه الآية 21 سورة النور. ويتحايل عليهم بتغيير الأسماء أو بفتاوى ضالة تأتي من هنا أو هناك. وأما الآية الثالثة فجاءت في سياق النهي عن الفواحش والعلاقات المحرمة، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وفي معرض أمر النساء بالحجاب، ونهيهن عن الاختلاط ، والخضوع بالقول، والأمر بغض الأبصار للجنسين جميعاً، وحفظ الفروج وصيانة الأخلاق ؛ سدا لأبواب الفواحش والرذائل. ومعلوم أن شهوة البطن والفرج هما أكثر ما يغزو الشيطان منهما بني الإنسان، وهما أكثر ما يدخل الناس النار ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: « الفم والفرج » (صحيح ابن حبان [476]). وأما الآية الرابعة فجاءت في معرض التخلص والحماية من هذه الخطوات: فإذا أردتم أن تحموا أنفسكم من أكل الحرام وكسب الحرام، والوقوع في الفواحش والآثام، فالتزموا دين الرحمن، وتمسكوا بشريعة العدنان، ولا تفرطوا في شيء من الإسلام، ولا تتساهلوا في شيء منها اتباعا لخطوات الشيطان ففي التزامها الحماية والعصمة { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة من الآية:208].
وقد بَيَّنَّا معنى الخطوات والفحشاء فيما مضى بشواهده، ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول تعالى ذكره: ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته لكم، ما تَطَهَّر منكم من أحد أبدا من دنس ذنوبه وشركه، ولكن الله يطهرُ من يشاء من خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) يقول: ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئا من الشرّ يدفعه عن نفسه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) قال: ما زكى: ما أسلم ، وقال: كلّ شيء في القرآن من زكى أو تَزكى، فهو الإسلام. إسلام ويب - التحرير والتنوير - سورة النور - قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان - الجزء رقم19. وقوله: ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقول: والله سميع لما تقولون بأفواهكم، وتَلَقَّوْنه بألسنتكم، وغير ذلك من كلامكم، عليم بذلك كله وبغيره من أموركم، محيط به، محصيه عليكم، ليجازيكم بكل ذلك.
وقد كتب ( زكى) في المصحف بألف في صورة الياء. وكان شأنه أن يكتب بالألف الخالصة; لأنه غير ممال ولا أصله ياء فإنه واوي اللام ، ورسم المصحف قد لا يجري على القياس. ولا تعد قراءته بتخفيف الكاف مخالفة لرسم المصحف; لأن المخالفة المضعفة للقراءة هي المخالفة المؤدية إلى اختلاف النطق بحروف الكلمة ، وأما مثل هذا فمما يرجع إلى الأداء ، والرواية تعصم من الخطأ فيه. وقوله: والله سميع عليم تذييل بين الوعد والوعيد ، أي سميع لمن يشيع الفاحشة ، عليم بما في نفسه من محبة إشاعتها ، وسميع لمن ينكر على ذلك ، عليم لما في نفسه من كراهة ذلك ، فيجازي كلا على عمله. وإظهار اسم الجلالة فيه ليكون التذييل مستقلا بنفسه; لأنه مما يجري مجرى المثل.