فقال: هو من ذاك بعينه ، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير; مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقيل: الجواب محذوف; المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي ، ويكون يدل على هذا المحذوف ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء). وقرأ يزيد بن القعقاع: ( فلا تذهب نفسك) ، وفي أفمن زين له سوء عمله أربعة أقوال ، أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس; قاله أبو قلابة. ويكون ( سوء عمله) معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني: أنهم الخوارج; رواه عمر بن القاسم. فيكون ( سوء عمله) تحريف التأويل. الثالث: الشيطان; قاله الحسن. ويكون ( سوء عمله الإغواء). الرابع: كفار قريش; قاله الكلبي. ويكون ( سوء عمله الشرك). وقال: إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب. أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً - مع القرآن (من لقمان إلى الأحقاف ) - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام. وقال غيره: نزلت في أبي جهل بن هشام. فرآه حسنا أي صوابا; قاله الكلبي. وقال: جميلا. قلت: والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال; لقوله تعالى: ليس عليك هداهم ، وقوله: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، وقوله: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ، وقوله: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ، وقوله في هذه الآية: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون وهذا ظاهر بين ، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم ، فإن الله أضلهم.
و " من " موصولة صادقة على جمع من الناس كما دل عليه قوله في آخر الكلام فلا تذهب نفسك عليهم حسرات بل ودل عليه تفريع هذا على قوله إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير و " من " في موضع رفع الابتداء والخبر عنه محذوف إيجازا لدلالة ما قبله عليه وهو قوله الذين كفروا لهم عذاب شديد عقب قوله إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير. فتقديره بالنسبة لما استحقه حزب الشيطان من العذاب: أفأنت تهدي من زين له عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وتقديره بالنسبة للنبيء - صلى الله عليه وسلم -: لا يحزنك مصيره فإن الله مطلع عليه. أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا. وفرع عليه فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وفرع على هذا قوله فلا تذهب نفسك عليهم حسرات أي فلا تفعل ذلك ، أي لا ينبغي لك ذلك فإنهم أوقعوا أنفسهم في تلك الحالة بتزيين الشيطان لهم ورؤيتهم ذلك حسنا وهو من فعل أنفسهم فلماذا تتحسر عليهم. وهذا الخبر مما دلت عليه المقابلة في قوله الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير فقد دل ذلك على أن الكفر سوء وأن الإيمان حسن فيكون من زين له سوء عمله هو الكافر ، ويكون ضده هو المؤمن ، ونظير هذا التركيب قوله تعالى أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار وفي سورة الزمر ، وتقدم عند قوله تعالى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت في سورة الرعد.
فالله أرشدهم بإرسال رسوله ليهديهم إلى ما يرضيه ، والله أضلهم بتكوين نفوسهم نافرة عن الهدى تكوينا متسلسلا من كائنات جمة لا يحيط بها إلا علمه وكلها من مظاهر حكمته ولو شاء لجعل سلاسل الكائنات على غير هذا النظام فلهدى الناس جميعا ، وكلهم ميسر بتيسيره إلى ما يعلم منهم فعدل عن النظم المألوف إلى هذا النظم العجيب. وصيغ بالاستفهام الإنكاري والنهي التثبيتي ، ونظير هذه الآية في هذا الأسلوب قوله تعالى أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار في سورة الزمر ، فإن أصل نظمها: أفمن حق عليه كلمة العذاب أنت تنقذه من النار ، أفأنت تنقذ الذين في النار. {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} – مجلة الوعي. إلا أن هذه الآية زادت بالاعتراض ، وكان المفرع الأخير فيها نهيا والأخرى عريت عن الاعتراض وكان المفرع الأخير فيها استفهاما إنكاريا. والنهي موجه إلى نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تذهب حسرات على الضالين ولم يوجه إليه بأن يقال: فلا تذهب عليهم حسرات ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ونفسه متحدان [ ص: 266] فتوجيه النهي إلى نفسه دون أن يقال فلا تذهب عليهم حسرات للإشارة إلى أن الذهاب مستعار إلى التلف والانعدام كما يقال: طارت نفسها شعاعا ، ومثله في كلامهم كثير كقول الأعرابي من شعراء الحماسة: أقول للنفس تأساء وتعزية إحدى يدي أصابتني ولم ترد لتحصل فائدة توزيع النهي والخطاب على شيئين في ظاهر الأمر فهو تكرير الخطاب والنهي لكليهما.
* الإعراب: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من التباين بين عاقبتي الفريقين ببيان تباين حالهما المؤدي إلى تينك العاقبتين. والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدمت نظائرها ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ خبره محذوف دل عليه سياق الكلام والتقدير كمن هداه الله، وأعربه بدر الدين بن مالك اسم شرط وجواب الشرط محذوف تقديره: ذهبت نفسك عليهم حسرة، وجملة زين صلة من وله متعلقان بزين وسوء عمله نائب فاعل، فرآه الفاء عاطفة ورآه عطف على زين والهاء مفعول رأى الأول وحسنا مفعول رأى الثاني لأنها قلبية والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وان واسمها وجملة يضل خبرها ومن يشاء مفعول يضل وجملة ويهدي من يشاء عطف على جملة يضل من يشاء.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) قال: الحسرات الحزن ، وقرأ قول الله ( يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) ووقع قوله ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) موضع [ ص: 442] الجواب ، وإنما هو منبع الجواب ، لأن الجواب هو المتروك الذي ذكرت ، فاكتفى به من الجواب لدلالته على الجواب ومعنى الكلام. واختلفت القراء في قراءة قوله ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) فقرأته قراء الأمصار سوى أبي جعفر المدني ( فلا تذهب نفسك) بفتح التاء من " تذهب " و " نفسك " برفعها. وقرأ ذلك أبو جعفر ( فلا تذهب) بضم التاء من " تذهب " و " نفسك " بنصبها ، بمعنى: لا تذهب أنت يا محمد نفسك. والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار; لإجماع الحجة من القراء عليه. وقوله ( إن الله عليم بما يصنعون) يقول - تعالى ذكره -: إن الله يا محمد ذو علم بما يصنع هؤلاء الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ، وهو محصيه عليهم ، ومجازيهم به جزاءهم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية قومه، يألم أشدَّ الألم حين يشرد أحد منهم عن طريق الإيمان؛ لذلك قال تعالى عن نبيه محمد: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]. ثم يقول سبحانه مُسلِّياً رسوله صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] يعني: لا تَخْفى عليه خافية من أفعالهم، وسوف يجازيهم ما يستحقون من عقاب على قَدْر ما بدر منهم من إعراض، فاطمئن ولا تحزن.
لو تهيأ لداود ذلك لرأينا للأسف من تعليقات العامة من يؤيد ابن ملجم وابن حطان ولفيف إرهابيي هذا الزمان وقد خدعه مظهرهم وصدقهم في ضلالهم. برغم أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وصفهم وصفا دقيقا "يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".. البخاري..