فمن حيت نظرت إلى هذا البيت لم تجد فيه إلا ما يستحق من أجله ألّا يحسب فى الشعر وإن كان موزونًا مقفى مع ما سبقه وتلاه. ولا يتعجل القارئ فيحسب أنا من أنصار «الريالزم» فى الشعر، أى ما يمكن أن نسميه المذهب الحسى، أو تناول الشىء كما هو واقع تحت الحس، ولكى نوضح هذا نقول كلمة صغيرة فى موضوعه. كلام اروع من الخيال , اسرح بخيالك مع الكلمات المعبرة - اروع روعه. الأصل فى الشعر وسائر الفنون الأدبية على اختلاف أنواعها وتباين مراميها وغاياتها، النظر بمعناه الشامل المحيط.. وعلى قدر اختلاف النظر يكون اختلاف المعانى والأغراض. والشاعر يسعه إلا أن يصور ما «يرى» بالمعنى الأوسع، ما يراه الواحد قد لا يراه الآخر، وربما أخذت عين الشاعر منظرًا فأبدع الخيال تنويقه، وأحسن ما شاء تفويقه وتزويقه. واعلم أن رؤية الشىء فى أجل مظاهره وأسمى مجاليه وأروع حالاته هى ما يعبر عنه «بالأيديالزم»، وعلى العكس من ذلك «الريالزم». ومن الضرب الأول قول البحترى يصف الربيع: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقد نبه النوروز فى غلس الدجى أوائلَ وردٍ كن بالأمس نوَّما يفتقها برد الندى فكأنه يبث حديثًا كان قبل مكتما ومن شجر رد الربيع لباسه عليه كلما نشّرت وشيًا منمنما ورق نسيم الريح حتى حسبته يجىء بأنفاس الأحبة نعما والأبيات مشهورة، ومنه أيضًا قصيدته البديعة فى إيوان كسرى وفيها يقول: والمنايا مواثل وأنوشر وان يُزجى الصفوف تحت الدرفس أما الضرب الثانى — أى الريالزم — فإن من الصعب العسير التمثيل له، لأن الخيال لا محالةَ عامل فى كل ما يزعم الزاعمون أنهم أمناء فى تصويره على حاله، شعروا بذلك أم لم يشعروا.
أفظع ما في الخيال أنك تستفيق منه على الحقيقة المرة. مرة أخرى شعرت أني لم أعد أميّز الحدود الفاصلة بين عالم الحقيقة وعالم الخيال. إننا بحاجة إلى الخيال كي نواجه تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء. في ساعة الحقيقة، يصبح الخيال وقاحة لا تحتمل. كم تخيّلت أن يجمعنا بيتاً وكنت أرسم تفاصيل حياتنا في مخيلتي لم أعلم أنها حياةٌ في الخيال فقط. المسافة بين الواقع والخيال، قصيدة جميلة. أقوال منسوجة عن الخيال الخيال تمردٌ على ظروفِ الزمانِ والمكانِ. الكتابة حالةٌ إنسانيةٌ يمتزجُ فيها الواقع بالخيال، نهرب بها من سوءِ الواقعِ إلى مثالية الخيال. في عالم افتراضي أقرب ما يكون إلى الخيال ترقُدُ أحلامُ الصغيرات في سلام. الفجر صعب المراس يا قبضة الخيال. الإنسان عندما يسمع عن شيءٍ لا يعرفه يحتاج إلى نقطةٍ يبدأُ منها بالتخيُّل فالخيال لا ينشط من الفراغ. كلام عن الخيال الصغير. شخصٌ عديمُ الخيال يلحق ببحثه قائمةً طويلةً بالمراجع، ويشرح أطروحته بطريقة مملة. هل نحن كائناتٌ متخيَّلة تعيش في الخيال وليس هناك واقع البتة. يمكنك وأنت مستيقظٌ أن تقمعَ الخيالَ، أما الأحلامُ فلا يمكنك قمعها. إن الأشخاص الذين يفتقدون الخيال هم أولُ من يبادرون إلى التبرير لأنفسهم.
فإن الأشياء موجودة نراها ونحسها كل يوم من أيام حياتنا، والحقائق معروضة على أذهاننا وقلوبنا، غير أن كونها كذلك ليس بمستلزم أن نكون قد انتفعنا بشهودنا إياها ووعيناها وأحطنا بها، وأكثرنا لا يفكر فيها ولا يلتفت إليها أو يعنى بها. وقل من بيننا من يُحضر إلى ذهنه صورة شىء مما يحيا بينه من المشاهد والمناظر. ولما كان الذهن بطبيعته يعييه إلى حد كبير أن يجسِّد لنفسه صورة منظر بجملته وتفاصيله كما هو كائن فى الطبيعة أو الواقع، فإن الأمر يحتاج إلى غريزة دقيقة التمييز يستهدى بها الذهن فى انتقاء التفاصيل وضم بعضها إلى بعض وترتيبها. كلام عن الخيال العلمى. وما على القارئ إلا أن يجرب! هذه هى الدنيا أمامه، وفيها ما هو أقرب إليه وأمس به وما هو أعرف به وأدرى، فليتناول ما يظن أنه أسهل عليه وأقل مؤونة وليصوره لنفسه وليعرض عليها كل جوانبه وليحاول الإحاطة والاستقصاءَ ليعرف أى عسر يكابد، وليدرك أن تناول المألوف ليس فيه إسفاف، وأن المألوفات، وإن كانت فى طريق كل أحد، لا يفطن إليها كل ذهن ولا تلتقطها كل عين، وليصدق قول «جورج إيليوت» أن بعض الناس حين يرون الشاعر يسبح بين الضباب يحسبون أن مجرد ذهابه فى الجو يُكسبه جلالًا، ويتوهمون أنه صار أقرب إلى السماء لأنه نأى عن الأرض!