وقد اشتهر في هذا العهد بالحجاز عكرمة مولى ابن عباس، وابن جريج. وبالعراق سعيد بن جبير، وعلقمة النخعي، وإبراهيم النخعي، وعامر الشعبي، وابن أبي ليلى، والثوري؛ وبالشام مكحول والأوزاعي، وبمصر الليث بن سعد. ومنذ أواخر العهد الأموي وحتى نهاية القرن الرابع الهجري تقريبا، عمت الدولة الإسلامية نهضة شاملة، سواء في ظهور المؤلفات والمدونات الكثيرة، أو في ظهور العلماء الكبار في كل نواحي المعرفة، ومنها الفقه، حيث ظهر الأئمة العظام. ولكن هناك أربعة رجال من الأئمة الأعلام، تميز كل منهم بطرق وأساليب خاصة في النظر والاستدلال، وفقا لقواعد وأصول تعد ضوابط لطرق الاستنباط، ولكونه يتبع طريقا محددا في بيان الأحكام، سميت آراؤه «مذهبا»، لذلك نقول مثلا: ذهب أبو حنيفة إلى كذا. كيف نشأت المذاهب الفقهية الأربعة؟ - إسلام أون لاين. والتف حول كل واحد من هؤلاء الأئمة الأعلام طلاب العلم، وقصدهم الناس من كل الطبقات يستفتونهم في دينهم، واشتهر أمرهم وهم أحياء. ثم إن تلاميذهم حفظوا علمهم، وشرحوه، وعملوا على نشره جيلا بعد جيل. هؤلاء الأربعة هم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل. المذهب الحنفي: ينسب إلى الإمام أبي حنيفة: النعمان بن ثابت، الذي يعد إمام الرأي في الفقه. وتمتد جذور هذا المذهب إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وتلاميذه.
وقد كتب الشافعي مؤلفاته مرتين: مرة في بغداد، ويطلق على هذه الكتب أنها مذهبه القديم، ثم إنه استقر في مصر السنوات الخمس الأخيرة من حياته، وأعاد النظر في كتبه، وترتب على ذلك إعادة تأليفها، حيث غير كثيرا من آرائه القديمة، وأصبح عليها المعول في مذهبه. وقد كان للشافعي، في عصره، أتباع من كبار العلماء، أسهموا في نشر مذهبه؛ منهم المزني والربيع المرادي، ومنهم الإمام الغزالي المشهور، صاحب «المستصفى في الأصول» و«الوجيز في الفقه»، ومنهم الرافعي صاحب كتابي «فتح العزيز» و«شرح الوجيز»، ومنهم النووي صاحب «المجموع» و«منهاج الطالبين». وقد انتشر المذهب الشافعي بمصر وكان يسودها المذهب المالكي، فلما استولى العثمانيون على مصر جعلوا للمذهب الحنفي المقام الأول، ومع ذلك بقي للمذهبين: المالكي والشافعي مكانهما في الشعب، فعلى أساسهما يتعبد الناس. وكان للمذهب الشافعي مكان في بلاد الشام، كما دخل بلاد فارس ومرو وخراسان، وهو الذي يجاور المذهب الزيدي في اليمن، ولكن يلاحظ أنه لم يجد مقاما في المغرب والأندلس المذهب الحنبلي: ينسب إلى الإمام أحمد بن حنبل. وأهم أصول هذا المذهب الأخذ بالأحاديث وأقوال الصحابة، واللجوء إلى القياس عند الضرورة القصوى، مع التوسع في اعتماد المصالح والذرائع والاستصحاب.
روى إبراهيم النخعي عن تلاميذ ابن مسعود، أمثال عمه علقمة بن قيس النخعي، وخاله الأسود النخعي، ومسروق بن الأجدع وغيرهم، ونقل فقههم. ثم انتهت رياسة هذه المدرسة إلى ابن أبي ليلى، وابن شبرمة وشريك القاضي وأبي حنيفة رحمهم الله أجمعين. ا لتقريب بين أهل الحديث وأهل الرأي إن الاختلاف بين المدرستين في عصر التابعين كان في وقت محدود جدا تزامن مع نشأة الفقه في مرحلة التأسيس في هذا العصر، بسبب الأحداث المتوالية واتساع الاختلاف بين الفقهاء كما سبق، ولكن الأمر لم يستمر على هذه الحالة طويلا؛ فقد انتشرت رواية الحديث الذي هو مادة الفقه بعد ذلك، وسرت فتاوى الفقهاء من الأمصار في الآفاق، واستقر الأمر بين المذهبين على قبول الرأي الصحيح الذي هو القياس أحد مصادر الفقه الإسلامي. يقول أبو زهرة: "لكن الفارق لم يستمر طويلا بين أهل الرأي وأهل الحديث، فإن الطبقة التي جاءت بعد الأئمة أصحاب المذاهب وتلاميذهم قد تلاقوا مهما يختلف أساتذتهم، فالإمام محمد من أصحاب أبي حنيفة يرحل إلى الحجاز ويدرس موطأ مالك، والشافعي يتلقى عن محمد ين الحسن فقه أهل الرأي. وأبويوسف نفسه يؤيد آراء كثيرين من أهل الرأي بالأحاديث، ولذا نجد كتب الفقه المختلفة مملوءة بالرأي والحديث معا، مما يدل على تلاقيهما وإن اختلف الفقهاء كثرة وقلة في الأخذ بأحدهما دون الآخر".