فقوله تعالى في آية سورة المائدة: { وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا} الآية، يصح أن يجاب عنه بجوابين: أحدهما: أن يقال: لما نبههم على ما خصهم به من الإكرام؛ ليشكروا على هذه النعم العظام، بأن جعل فيهم أنبياء مقيمين بين ظهرانيهم، يدعونهم إلى طاعة ربهم، ويثنونهم عن المحظور من شهواتهم، وأن جعلهم ملوكاً حيث أغناهم -بما أنزل عليهم من المن والسلوى- عن الحاجة إلى الناس في التماس الرزق من أمثالهم، وتكفل خدمتهم وأعمالهم، وبما ملكهم من المال والعبيد والإماء، الذين كانوا يخدمونهم ويكفونهم ما يحتاجون إلى مباشرته بأنفسهم. تفسير: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون). والمنَبَّه عليه في هذا المكان أشرف ما يخوله الإنسان، من النبوة التي لها أشرف منازل الثواب، والمـُلك الذي هو غاية ما تسموا الهمم في دار التكليف إليه، فنبهوا بأبلغ الألفاظ؛ ليقوموا بشكر ما عليهم من الإنعام. أما الآية التي في سورة إبراهيم ، ففيها تنبيه على ما صرف عنهم من البلاء والعذاب، وليس هو كالتنبيه على تخويل أشرف العطاء مع صرف البلاء. وجواب ثان: وهو أن المن والسلوى مما لم يُنْعِم به على أحد قبل بني إسرائيل ولا بعدهم؛ فلذلك قال: { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} (المائدة:20)، فإذا نُبهوا على شكر نعمة خُصوا بها دون الناس كلهم، كانت المبالغة في ذلك أولى.
تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ (سورة البقرة: الآية 67) إعراب مفردات الآية [1]: (وإذ قال موسى لقومه) سبق إعرابها. (إنّ) حرف مشبّه بالفعل للتوكيد (اللّه) لفظ الجلالة اسم إنّ منصوب (يأمر) مضارع مرفوع والكاف ضمير مفعول به والميم حرف لجمع الذكور، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو (أن) حرف مصدري ونصب (تذبحوا) مضارع منصوب وعلامة النصب حذف النون.. والواو فاعل (بقرة) مفعول به منصوب. القران الكريم |وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. والمصدر المؤوّل من (أن) والفعل في محلّ جرّ بحرف جرّ محذوف متعلّق بـ(يأمركم) أي يأمركم بذبح بقرة. (قالوا) فعل وفاعل الهمزة للاستفهام الإنكاري (تتّخذ) مضارع مرفوع، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت و(نا) ضمير في محلّ نصب مفعول به (هزوا) مفعول به ثان منصوب (قال) فعل ماض والفاعل هو (أعوذ) مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا (باللّه) جارّ ومجرور متعلّق ب (أعوذ)، (أن) حرف ناصب (أكون) مضارع ناقص منصوب واسمه ضمير مستتر تقديره أنا (من الجاهلين) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف خبر أكون وعلامة الجرّ الياء.
في هذه القصة يُذَكِّر الله بني إسرائيل بما حصل منهم من المكابرة والعناد والتعنت، والتشديد على أنفسهم مما كان سببًا لتشديد الله عليهم. قال ابن القيم [1] في ذكر العبر من هذه القصة: "إن بني إسرائيل فُتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب، ففُتنوا بعبادة العجل، وفُتنوا بالأمر بذبح البقرة، والبقر من أبلد الحيوان حتى ليضرب به المثل. والظاهر أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل، ففي الأمر بذبح البقرة تنبيهٌ على أن هذا النوعَ من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي لا يصلح أن يكون إلهًا معبودًا من دون الله تعالى، وإنما يصلح للذبح والحرث والسقي والعمل". قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67]. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل حين قال موسى لقومه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾. واذ قال موسي لقومه ان الله. وذلك أن بني إسرائيل قُتِل منهم قتيل، قيل: كان ذا مال كثير، فقتَله ابنُ أخيه؛ ليرثه، واختلفوا في قاتله وتخاصموا في ذلك، واتهمت كلُّ قبيلة منهم الأخرى، وكادت تثور بينهم فتنة وقتال بسبب ذلك، فرأوا أن يأتوا إلى نبي الله موسى عليه السلام؛ ليخبرهم من القاتل، كما يدل على هذا قوله تعالى في أثناء القصة: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 72]، فقال لهم موسى عليه السلام: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾، وقد أكَّد لهم ذلك بـ"إِنَّ"، وعظَّمهُ ببيان أن الآمر بذلك هو الله عز وجل، ولم يقل: آمركم أو اذبحوا.
والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أُممها، وتأمرهم باتباعه ونصره ومؤازرته إذا بُعث، وكان أول ما اشتهر الأمر في أهل الأرض، على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكّة أن يبعث اللّه فيهم رسولاً منهم، وكذا على لسان عيسى بن مريم، ولهذا قال: (دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بن مريم، ورؤيا أُمي التي رأت) أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك، والإرهاص، فذكره صلوات اللّه وسلامه عليه. وقوله تعالى: { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} قال ابن جريج، { فلما جاءهم} أحمد أي المبشر به في الأعصار المتقادمة المنوه بذكره في القرون السالفة، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون { هذا سحر مبين}. تفسير الجلالين { و} اذكر { إذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني} قالوا: إنه آدر، أي منتفخ الخصية وليس كذلك، وكذبوه { وقد} للتحقيق { تعلمون أني رسول الله إليكم} الجملة حال، والرسول يحترم { فلما زاغوا} عدلوا عن الحق بإيذائه { أزاغ الله قلوبهم} أمالها عن الهدى على وفق ما قدره في الأزل { والله لا يهدي القوم الفاسقين} الكافرين في علمه.