لقد تفطن إلى ذلك الدكتور محمد شحرور رحمه الله تعالى حين تدبر كتاب الله تعالى في المواريث، وكنت دائما أتساءل لماذا يُقحم الأعمام في الميراث إذا لم يكن للمتوفى إلا الإناث ، لأن المتدبر يجد أن الله تعالى يقول: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ. (11). النساء. ولم يقل سبحانه: يوصيكم الله في الذكر والأنثى. إنما قال العليم الحكيم: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ. أي أن الأولاد هم: (الذكور والإناث). ولنا أمثلة أخرى تبين أن الأولاد هم ما يولد لنا ، سواء كان إناثا أم ذكورا. وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(233).
فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا ، وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع ، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ، وقيل: الأب يجب عليه النفقة على الابن إذا احتاج ، وكذلك الابن إذا كان محتاجا فهما في النفع بالنفقة لا يدري أيهما أقرب نفعا ، وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له ، لأن هذه الجملة اعتراضية ، ومن حق الاعتراضي أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه ، والقول ما تقدم فريضة: نصبت نصب المصدر المؤكد ، أي: فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما: بمصالح خلقه حكيما: في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.
يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ. عزمت بسم الله، لقد أنزل الله تعالى على آخر الأنبياء كتابا للعالمين محفوظا بقدرته سبحانه، حتى لا يتمكن الإنس والجن من تحريفه أو الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. لكن المجتمع الذكوري البشري اخترع فقها لِيُغيِّر به بعض أحكام الله تعالى، التي أنزلها على رسوله حتى لا تُتَّبع كما أُنزلت ويُسلم بها تَسليما، ومن بين تدخل الفقهاء (الذكور) تدخلهم في الميراث فقسموه حسب هواهم ومصالحهم حتى لا يخرج المال من يدي العائلة المنحدرة من الصلب، فجعلوا لمعنى الولد أنه ( الذكر) وحده بدون منازع ، بينما حديث الرحمان الرحيم في القرآن العظيم يذكر الولد بمعنى (الذكر والأنثى). قال رسول الله عن الروح عن ربه: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ و َأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(15)التغابن. فهل في هاتين الآيتين الكريمتين يقصد الله تعالى من كلمة ( أَ وْلَادُكُمْ) الذكر دون الأنثى؟؟؟ كلا وألف كلا إنما يُقصد من ( أَوْلَادُكُمْ) الذكر والأنثى أنهما عدوا لكم وفتنة فاحذروهم، لكن الفقهاء في الميراث جعلوا من كلمة الولد تعني الذكر فقط ، لحاجة في أنفسهم يريدونها، وهي السيطرة على المال، ليبقى في العائلة التابعة للذكر، ولا يخرج المال لغيرهم من الأنساب، لأن البنت تخرج من بيت والدها إلى بيت زوجها.
فإن قلت: فإن حظ الأنثيين الثلثان ، فكأنه قيل: للذكر الثلثان. قلت: أريد حال الاجتماع لا الانفراد أي: إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان ، كما أن لهما سهمين ، وأما في حال الانفراد ، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين ، والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع ، أنه أتبعه حكم الانفراد ، وهو قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك: والمعنى للذكر منهم ، أي: من أولادكم ، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم ، كقولهم: السمن منوان بدرهم فإن كن نساء: فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا. ليس معهن رجل يعني بنات ليس معهن ابن فوق اثنتين: يجوز أن يكون خبرا ثانيا لـ "كان" وأن يكون صفة لـ "نساء" أي: نساء زائدات على اثنتين وإن كانت واحدة: وإن كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى فلها النصف: وقرئ: "واحدة" بالرفع على كان التامة والقراءة بالنصب أوفق لقوله: فإن كن نساء وقرأ زيد بن ثابت "النصف" بالضم ، والضمير في ترك للميت; لأن الآية لما كانت في الميراث ، علم أن التارك هو الميت. فإن قلت: قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين: كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد ، لا لبيان حظ الأنثيين ، فكيف صح أن يردف قوله: فإن كن نساء: وهو لبيان حظ الإناث؟ قلت: وإن كان مسوقا لبيان حظ الذكر ، إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين مع أخيهما; كان كأنه مسوق للأمرين جميعا.
ولا يبعد أن يكون جوابا للجميع ؛ ولذلك تأخر نزولها. والله أعلم. (*) قال الكيا الطبري: وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك ، بل ثبت خلافه ؛ فإن هذه الآية نزلت في وَرَثَة سعد بن الربيع. وقيل: نزلت في وَرَثَة ثابت بن قيس بن شماس. والأول أصح عند أهل النقل. فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الميراث من العم ** ورد عند ابن الجوزي قوله تعالى: " يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ.. " في سبب نزولها ثلاثة أقوال. (*) أحدها: أن جابر بن عبد الله مرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: كيف أصنع في مالي يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية ، رواه البخاري ومسلم (*) والثاني: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنتين لها ، فقالت: يا رسول قتل أبو هاتين معك يوم أحد ، وقد استفاء عمهما مالهما ، فنزلت ، روي عن جابر بن عبد الله أيضا.